مرحباً بكم في حلقة جديدة من بودكاست “دردشة عن حقوق الإنسان” لبرنامج التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان وحلقتنا اليوم بعنوان: “العمل الرقمي: حرية جديدة أم استغلال بصيغة رقمية؟”؛ حوار مع الدكتور ربيع فخري جميل حول العمل الرقمي وحقوق الإنسان.
ربيع فخري جميل، حاصل على درجة الدكتوراه في علم اجتماع العمل من جامعة مونتريال. وهو أستاذ محاضر متخصص في تحولات العمل في ظل الإدارة الخوارزمية والمنصات الرقمية. تركّز أعماله البحثية على المنصات الرقمية وتأثيراتها على الحياة اليومية للأفراد، خصوصاً في مجالات العمل والحوكمة. يمتلك خبرة تزيد عن 15 عاماً في مجال السياسات الاجتماعية والقانونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى عمله في كندا على قضايا اليد العاملة المهاجرة والتحول الرقمي في مجال العمل. باحث زميل في المجلس العربي للعلوم الاجتماعية والجامعة الأمريكية في بيروت ويقوم بحثه على أثر التحول الرقمي على قطاع النقل الخاص في بيروت.
أهلًا وسهلًا بك دكتور، نُرحّب بك اليوم، ويشرّفنا وجودك معنا.
سنبدأ حديثنا اليوم عن العمل الرقمي. وعند الحديث عن هذا المفهوم، لا بدّ من التوقّف عند تعريفه أولًا، ومعرفة الفرق بين العمل الرقمي والعمل التقليدي الذي اعتدنا عليه طوال حياتنا. تفضّل دكتور.
شكرًا على الاستضافة.
أصبح مصطلح العمل الرقمي من المصطلحات المتداولة بكثرة على مستوى العالم عمومًا، وفي دول الجنوب ومجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص. ومن أبرز التحدّيات المرتبطة بهذا المصطلح غيابُ تعريفٍ واضحٍ ومفهومٍ مشترك لما يُقصد بالعمل الرقمي. ولهذا السبب، يحدث أحيانًا خلطٌ بين المفاهيم، إذ ليس كلّ من يستخدم الحاسوب في عمله يُعدّ عاملًا في مجال العمل الرقمي، وهذه نقطةٌ أساسية يجب توضيحها.
إذا طرحنا على أنفسنا السؤال: ما هو العمل الرقمي؟
يمكننا القول إنّ العمل الرقمي هو ذلك العمل الذي يحتاج، في جوهره، إلى وسائط رقمية ومنصّات إلكترونية لتنفيذه. أي إنّ العمل لا يمكن إنجازه خارج هذه الوسائط والمنصّات، وهذه نقطةٌ محورية.
وعندما نتحدّث عن الوسائط الرقمية والمنصّات الإلكترونية، فإنّنا نتحدّث بالضرورة عن الاتصال بشبكة الإنترنت. كما أنّ جميع مراحل العمل، من الإنتاج، إلى التسويق، إلى التفاعل مع المستخدمين، وصولًا إلى الدفع، والبدلات، والمحاسبة، والتقييم، تتمّ عبر هذه الوسائط الرقمية.
وتشمل هذه الوسائط منصّات إلكترونية، إضافةً إلى أدوات رقمية مادية، مثل الهاتف الذكي والحاسوب المحمول وغيرها من الأجهزة.
وبحسب منظمة العمل الدولية، يمكن تصنيف العمل الرقمي إلى نوعين أساسيين يجب التمييز بينهما:
الأول هو العمل الرقمي الموقعي، أي العمل المرتبط بمكانٍ جغرافيّ محدّد، رغم اعتماده على منصّة إلكترونية. ومن أمثلته عمال النقل، أو خدمات التوصيل، أو الإيجار عبر منصّات مثل إير بي إن بي، إضافةً إلى تطبيقات التجارة الإلكترونية مثل أمازون.
أما النوع الثاني فهو العمل الرقمي السحابي، وهو العمل الذي يمكن إنجازه من أيّ مكان في العالم، بشرط وجود اتصال بالإنترنت وإمكانية الوصول إلى المنصّة الرقمية. في هذا النوع من العمل، لا يكون الموقع الجغرافي عاملًا مُقيِّدًا.
وقد ظهر هذا النمط بوضوح فيما يُعرف بـ الرحّالة الرقميين، حيث تسمح بعض الدول، لا سيّما في جنوب أوروبا مثل البرتغال وإيطاليا وإسبانيا، بإقامات طويلة الأمد للأشخاص الذين يعملون عن بُعد عبر المنصّات الرقمية. وينطبق الأمر أيضًا على بعض الدول في أمريكا اللاتينية، مثل المكسيك، بالنسبة لمواطني أمريكا الشمالية.
وبالعودة إلى مثال إير بي إن بي، قد يملك شخصٌ عقارًا مُسجّلًا على المنصّة، بينما تُدار أعمال التنظيف والإدارة من خلال أشخاص آخرين على أرض الواقع. في هذه الحالة، يُعدّ مالك العقار جزءًا من العمل الرقمي، في حين أنّ العاملين في التنظيف والإدارة يؤدّون عملًا موقعيًا مرتبطًا بالمنصّة، لكنهم لا يعملون عليها مباشرة.
وهذا يقودنا إلى نقطةٍ مهمّة، وهي أنّ التوسّع الكبير في العمل الرقمي ودور المنصّات الإلكترونية أدّى إلى نشوء قطاعات خدمية جانبية مرتبطة به، لكنها لا تُعدّ جزءًا مباشرًا من العمل الرقمي نفسه.
العمل الرقمي هو عملٌ أساسي، لكنه في الوقت نفسه متفرّع ومتشابك بدرجةٍ كبيرة. واليوم، لا يمكن حصر العمل الرقمي في قطاعٍ واحد، أو مهنةٍ محدّدة، أو نوعٍ واحد من أنماط العمل. يمكننا القول إنّ العمل الرقمي أصبح عابرًا للقطاعات، إذ يمكن العثور عليه في أيّ قطاع اقتصادي أو نشاط إنتاجي تقريبًا.
وهنا يبرز السؤال: ما الفرق بين العمل التقليدي والعمل الرقمي، إذا أردنا اعتماد مصطلح العمل التقليدي اصطلاحًا؟
أحد أبرز الفروق هو أنّ العمل الرقمي يقدّم قدرًا عاليًا من المرونة للعامل. لكن ماذا نعني بالمرونة؟
من أبرز الشعارات التي جرى تسويقها للعمل الرقمي أنّه يتيح لك العمل من أيّ مكان، وفي أيّ وقت. في المقابل، يقوم العمل التقليدي على دوامٍ ثابت، ومكان عملٍ محدّد، وهو فرقٌ جوهري في تنظيم العمل.
في العمل الرقمي، لا يكون العامل مقيّدًا بموقعٍ جغرافيّ معيّن، ولا يلتزم بالضرورة بمكتب أو شركة أو ساعات دوام محدّدة. وهذه نقطةٌ أساسية في فهم طبيعة هذا النمط من العمل.
ومن أهم أشكال المرونة التي يقدّمها العمل الرقمي أيضًا سهولة الدخول إلى سوق العمل والخروج منه، من دون أن يتحمّل العامل أعباءً إدارية أو قانونية كبيرة. وهنا لا نتحدّث عن الأعباء المادية فقط، بل عن الأعباء التنظيمية والإدارية عمومًا.
تاريخيًّا، شهدنا منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ضغوطًا متزايدة لفرض ما يُسمّى مرونة العلاقات التعاقدية. ونتيجة لذلك، ظهر نموذج العمل الحر أو العقود محدّدة الأجل، حيث يسعى ربّ العمل إلى توظيف أشخاص لفتراتٍ معيّنة، ثم الاستغناء عنهم بسهولة ومن دون تحمّل التزامات طويلة الأمد. هذا النموذج كان موجودًا قبل العمل الرقمي، لكنه ازداد انتشارًا مع التحوّلات الاقتصادية العالمية.
وهنا نكون قد انتقلنا فعليًّا إلى السؤال الثاني:
كيف أثّر التحوّل الرقمي في واقع العمل والحقوق العمالية؟
وهل يوفّر العمل الرقمي مساحةً أكبر من الحرية، أم أنّه يمثّل شكلًا جديدًا من أشكال الاستغلال؟
لقد دخلنا الآن في صلب الإشكالية. فالمرونة، كما ذكرت، لم تكن غائبة سابقًا، لكنها كانت في الغالب بيد صاحب العمل. وسأعطي مثالًا شائعًا من كندا، وهو نموذج عمّال المطاعم.
جرى تعديل قوانين العمل هناك بحيث مُنح أرباب العمل حقّ توظيف العمّال وفق نظام يُعرف بـ العمل عند الطلب. أي إنّ صاحب المطعم، مثلًا، يحتاج إلى عدد أكبر من العمّال خلال فترات الأعياد أو عطلات نهاية الأسبوع، فيقوم بتوظيف عمّال يكونون “متاحين عند الطلب”. يعملون يومين أو ثلاثة أيام، ثم لا يكون لهم عمل في بقية الأسبوع، مع بقائهم في حالة استعداد دائم. هذه المرونة كانت تخدم ربّ العمل أساسًا.
لكن مع ظهور المنصّات الرقمية، انتقلت هذه المرونة جزئيًّا إلى يد العامل نفسه. كيف حدث ذلك؟
لنأخذ مثال سائقي أوبر أو عمّال التوصيل. يستطيع العامل الدخول إلى التطبيق والعمل لشهرين، ثم تسجيل الخروج والتوقّف عن العمل لشهرين كاملين، من دون أن يُحاسَب أو يُعاقَب. ثم يعود مجدّدًا، ويسجّل الدخول إلى التطبيق، وغالبًا ما يُستقبل من المنصّة من دون أيّ عوائق. هذه المرونة لم تكن متاحة في أنماط العمل السابقة.
لكن لماذا ظهرت هذه المرونة بهذا الشكل؟
من الضروري هنا التذكير بأنّ العمل عبر المنصّات الرقمية الموقعيّة انتشر على نطاقٍ واسع بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 في الولايات المتحدة، ولا سيّما بعد انهيار سوق العقارات وما تبعه من انهيار مالي واقتصادي واسع.
نتج عن هذه الأزمة ملايين العمّال الذين فقدوا وظائفهم وأصبحوا يبحثون عن مصادر دخل جديدة. وهذه نقطةٌ محورية في فهم التحوّل العالمي وبروز العمل الرقمي لاعبًا أساسيًّا في سوق العمل.
قبل عام 2008، لم تكن هذه التطبيقات منتشرة، بل إنّ معظمها لم يكن موجودًا أصلًا، وإن وُجدت بعض النماذج الأولية، فلم تكن هناك ثقة واسعة بها.
وتزامن ذلك مع تحوّل تكنولوجي كبير، تمثّل في الانتشار الواسع للهواتف الذكية. نتذكّر جميعًا كيف كان جهاز بلاك بيري يُعدّ قمّة التطوّر التكنولوجي، ثم جاء آيفون ليُحدث ثورةً حقيقية في استخدام الهاتف ووظائفه.
بين عامي 2005 و2010، ثم حتى 2012، شهدنا تطوّرًا كبيرًا في الأجهزة الذكية المحمولة، بحيث أصبح الهاتف الذكي حاسوبًا محمولًا، ووسيلة اتصال، ومنصّة خدمات رقمية متكاملة في آنٍ واحد.
كما شهدنا تحوّلًا مهمًّا على مستوى البرمجيات، مع ظهور التطبيقات الرقمية، ولا سيّما تطبيقات الهاتف المحمول، التي لم تكن موجودة بالشكل الذي نعرفه اليوم قبل عام 2008. أصبحت التطبيقات تُحمَّل على الهاتف وترافق المستخدم أينما ذهب، وتُستخدم في أيّ مكان.
هذا التطوّر التكنولوجي الكبير تزامن مع الأزمة الاقتصادية الخانقة في الولايات المتحدة، والتي دفعت ملايين الأشخاص، من مختلف المهن والقطاعات، إلى البحث عن مصادر رزق جديدة. ولم يكن هؤلاء من العمّال اليدويين فقط، بل شملوا موظفين إداريين، وأساتذة، وممرّضين، وعمّالًا في قطاعات مكتبية وخدمية مختلفة.
كثيرون فقدوا وظائفهم، وكانوا مثقلين بالديون، ولديهم التزامات معيشية لا يمكن تأجيلها. فجاءت هذه المنصّات الرقمية لتستثمر في هذا الواقع، وبدأت بالانتشار في المجتمعات الغربية والدول المتقدّمة اقتصاديًّا، ثم ما لبثت أن تمدّدت إلى قطاعات مختلفة بسرعةٍ كبيرة.
توسّعت هذه المنصّات بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، ورافق ذلك اتّساعٌ هائل في قاعدة اليد العاملة التي تعتمد عليها. وهذه اليد العاملة تتكوّن أساسًا من فئاتٍ محدّدة، من بينها:
- عمّال فقراء غير عاطلين عن العمل، أي أشخاص لديهم وظائف، لكن الدخل الذي يحصلون عليه غير كافٍ لتلبية احتياجاتهم المعيشية.
- طلاب تحت ديون وأقساط دراسية مرتفعة.
- متقاعدون غير قادرين على العيش اعتمادًا على معاشاتهم التقاعدية.
- أشخاص يحتاجون إلى دخلٍ إضافيّ، ولو كان محدودًا.
بدأ هذا النموذج فيما يُسمّى دول الشمال، ثم انتقل لاحقًا إلى دول الجنوب. وعند انتقاله إلى دول الجنوب، اتّسع نطاقه أكثر، لكنّ كثيرًا من السمات ظلّت مشتركة بين السياقين، ولم تتغيّر جذريًّا، وهو ما أظهرته دراسات وتقييمات متعدّدة.
لنعد الآن إلى الفرق بين العمل التقليدي والعمل الرقمي.
تحدّثنا عن المرونة، وتحدّثنا عن عدم التقيّد الجغرافي، أي غياب مكان العمل الثابت. لكن هناك مسألة شديدة الأهمية، وهي طبيعة العقود.
وهنا يبرز سؤال محوري: هل توجد عقود أصلًا؟
العقود محدّدة الأجل ليست جديدة؛ فهي موجودة منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. لكن ما الذي تغيّر؟
ظهر ما يُعرف في بريطانيا بـ عقود الساعات الصفرية، أي عقود يمكن أن تكون مدّتها أقلّ من ساعة واحدة، وتنتهي في أقلّ من ساعة.
وهناك تصريحٌ شهير لأحد كبار المدراء التنفيذيين لإحدى المنصّات الرقمية التي أُغلقت لاحقًا، قال فيه، بتصرّف في الترجمة
“قبل استخدام الإنترنت في مجال العمل، كنّا نواجه صعوبات كبيرة في إيجاد العامل، وتوظيفه، واستغلاله، ثم التخلّص منه، وكان ذلك يكلّفنا الكثير من المال. أمّا اليوم، ومع هذا التحوّل، أصبحنا نوظّف، ونستغلّ، ونفصل العامل في أقلّ من ثانية.”
لوكاس بيوالد
هذا النمط لم يكن موجودًا سابقًا. نحن اليوم أمام شكلٍ جديدٍ من العلاقات التعاقدية، يختلف حتى عن منطق العمل الحر، ويختلف أيضًا عن العلاقة التقليدية مع مورّدي الخدمات أو المتعاقدين الثانويين.
نحن أمام علاقة غير متكافئة بين شركات عملاقة تُقدَّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، وبين عامل فرد. ويقوم العقد في جوهره على إعادة تعريف العامل بوصفه ربّ عمل لنفسه.
وبذلك، لم نعد أمام علاقة بين ربّ عمل وأجير، بل أمام علاقة تجارية تعاقدية بين مقدّم خدمة (وهو العامل فعليًّا) وبين شركة إلكترونية تدّعي أنّ دورها يقتصر على إتاحة الوصول إلى السوق، وأنّها مجرّد وسيط.
وهذا تحوّلٌ خطيرٌ على مستوى علاقات العمل. فالشركة والعامل، بحسب هذا المنطق، يقدّمان خدمات متكافئة، ولا توجد علاقة تبعية بينهما، وهو ادّعاء غير واقعي.
ومن النقاط الجوهرية هنا أنّ شروط هذه المنصّات تمنع العامل من مقاضاة الشركة أمام محاكم العمل الوطنية.
وبذلك، جرى تعطيل الصلاحيات التقديرية والقضائية لمحاكم العمل المحلية، وحصر النزاعات فيما يُعرف بـ هيئات التحكيم الدولية، وغالبًا في دول مثل هولندا.
على سبيل المثال، إذا تعرّض سائق يعمل عبر منصة أوبر لمشكلة مع الشركة، فإنّ العقد يمنعه من اللجوء إلى القضاء المحلي، ويُلزمه بالتحكيم الدولي، وهو مسار شبه مستحيل من حيث الكلفة والتعقيد.
وهكذا أصبحت هذه العقود عقود شبه مطلقة.
النقطة الثانية المهمّة تتعلّق بطريقة الدفع.
من أبرز التحوّلات التي أطلقتها هذه المنصّات هو الانتقال من الدفع مقابل الوقت إلى الدفع مقابل القطعة.
أي أنّ العامل لم يعد يتقاضى أجرًا مقابل الوقت الذي يقضيه في أداء العمل، بل مقابل الخدمة نفسها. وهذا يعيدنا إلى أنماط عمل ما قبل الرأسمالية وما قبل الصناعية.
لم يعد هناك أجر يوم عمل، بل أجر خدمة.
كما نشتري سلعة بغضّ النظر عن الوقت الذي استغرق إنتاجها، أصبح العامل يُدفَع له مقابل النتيجة فقط، لا مقابل الزمن.
وفي هذا السياق، رفعت إحدى النقابات العمالية في بريطانيا عام 2016 دعوى ضد شركة أوبر باسم سائقيها.
وكان ردّ إدارة أوبر أمام محكمة العمل في لندن أنّ الشركة لا توظّف ثلاثين ألف عامل، بل تتعامل مع ثلاثين ألف مشروعٍ صغير، وأنّها مجرّد منصّة تقنية.
المحكمة وصفت هذا الطرح بأنّه غير معقول، ورفضته، وأصدرت أول قرارٍ استراتيجي عالميّ يعتبر سائقي أوبر عمّالًا يتمتّعون بحقوق عمالية.
هناك استثمارٌ هائل في تسويق هذه المنصّات على أنّها مساحة من الحرية المطلقة:
العمل حيثما تشاء، وحينما تشاء، ومن دون ربّ عمل، ومن دون رقابة.
لكن الواقع مختلف.
فالتقييم المستمر بعد كلّ خدمة هو شكل من أشكال الرقابة الصارمة، وقد يؤدّي في كثير من الأحيان إلى إغلاق حساب العامل بسبب تقييمات قد تكون غير عادلة.
وهنا نصل إلى وهم الحرية.
ففكرة العمل في أيّ وقت غير دقيقة؛ لأنّ العامل لا يعمل إلا عندما يتوفّر الطلب.
عمّال المنصّات الموقعيّة، كسائقي النقل أو عمّال التوصيل، يعملون خلال ساعات الذروة فقط.
يوم العمل يصبح مُجزّأً: صباحًا، ظهرًا، مساءً، وليلًا.
وفي عطلات نهاية الأسبوع، يمتدّ العمل أحيانًا من السادسة مساءً حتى الثالثة فجرًا.
وهكذا، بدَل أن يكون العامل حرًّا في تنظيم وقته، يصبح أسير الطلب، ويؤدّي ذلك إلى تمدّد يوم العمل إلى ما يتجاوز ثماني ساعات، في ظلّ غياب أيّ حماية قانونية حقيقية.
يعمل العامل أربع ساعات، ثم يعود إلى المنزل، ثم يعمل أربع ساعات أخرى، ثم يعود مجددًا، ثم يعمل خمس ساعات إضافية. وبهذا يصبح مجموع ساعات العمل أكثر من ثماني ساعات يوميًّا، وتغدو الحياة العملية متداخلة بشكلٍ عميق مع الحياة الشخصية. وهذه نقطة أساسية.
النقطة الثانية المهمّة، والتي تفضّلتَ بالإشارة إليها، تتعلّق بالمراقبة.
يُقال للعامل: لا أحد يراقبك. لكن في الواقع، وخلال بحثي في أطروحة الدكتوراه، ركّزتُ بشكلٍ أساسي على المراقبة الإلكترونية.
هذه التطبيقات تمتلك قدرات رقمية هائلة تمكّنها من مراقبة العمّال أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، وسبعة أيّام في الأسبوع، حتى أثناء نومهم. وهذه مسألة يجب أن نضع تحتها خطوطًا كثيرة وباللون الأحمر.
لماذا؟
لأنّ هذه التطبيقات تمتلك إمكانات لم تكن متوفّرة في أيّ مرحلة سابقة. فقد تطوّرت التكنولوجيا إلى درجة جعلت تفادي المراقبة في العمل أمرًا شبه مستحيل.
فالتطبيق يستطيع معرفة سرعة المركبة، واتجاه الحركة، وطريقة استخدام المكابح، بل ويسأل عن طبيعة التفاعل والمحادثة مع الزبائن، ويمنح الزبون حقّ تقييم العامل عبر ما يُعرف بـ نظام الخمس نجوم.
والعامل، في المقابل، لا يملك أي وسيلة لتقييم أدائه سوى هذا التقييم الصادر عن الزبون.
وهنا تتحوّل المنصّات الرقمية، سواء في تطبيقات النقل أو التوصيل أو حتى في منصّات الإيجار الرقمي، إلى فضاءٍ يصبح فيه الزبون أشبه بموظّف الموارد البشرية.
فقد جرى نقل مهمّة المراقبة والتأديب من إدارات الموارد البشرية إلى المستخدم النهائي.
والنتيجة أنّ العامل لا يخسر حسابه فقط، بل يخسر حقّه في العمل نفسه.
وهذا بالغ الخطورة، خصوصًا أنّ كثيرًا من هؤلاء العمّال استثمروا مبالغ قد تصل إلى عشرة آلاف أو خمسة عشر ألف دولار، سواء في شراء مركبة، أو تجهيزات، أو تراخيص عمل.
وقد وثّقتُ حالاتٍ لسائقي منصّات رقمية جرى إيقافهم عن العمل برسالة نصيّة واحدة، بسبب ادّعاء أحد الزبائن أنّ إطارات المركبة غير جيّدة.
ومن قال إنّ الزبون خبيرٌ في تقييم الإطارات؟
وهكذا، لم تختفِ الرقابة، بل ازدادت وتنوّعت وتوسّعت. لكن من أصبح المراقب؟
لم يعد هناك مشرف بشري، بل الخوارزمية، بالتعاون مع المستخدمين الذين يقدّمون، من دون مقابل، عملًا إشرافيًّا عبر التقييم.
عندما نقوم بالتقييم عبر الخمس نجوم، فنحن عمليًّا نقدّم خدمة مجانية للمنصّة.
ومن أوهام الحرّية أيضًا مسألة العمل عبر أكثر من تطبيق في الوقت نفسه.
هذا الأمر موجود، نعم، لكنه يعرّض العامل لمستويات أعلى من المراقبة والتتبّع.
فالعامل يحتاج أحيانًا إلى استخدام تطبيقات إضافية لمساعدته على أداء عمله، كخرائط الملاحة، ما يدفعه إلى استخدام هاتفين أو ثلاثة أثناء القيادة، وهو أمر شديد الخطورة.
وهذا الوهم بالحرّية يدفع العمّال إلى ممارسة ما يُعرف بـ العمل العاطفي، أي السعي الدائم لإرضاء الزبون، والخوارزمية، والتطبيق، والسلطات، في علاقة غير متوازنة على الإطلاق.
ومن هنا نشأت فكرة عقود الإخضاع، ووهم الاختيار؛ إذ يُقال للعامل إنّه يختار بحرّيته، بينما هو في الواقع مُجبر على الاختيار ضمن شروط مفروضة.
كلّ ذلك يقودنا إلى السؤال الجوهري: ما أثر هذه التحوّلات على حقوق العمّال؟
نحن هنا لا نتحدّث فقط عن العمّال الرقميين، بل عن حقوق المستخدمين عمومًا.
فكلّ منصّة تضمّ نوعين من المستخدمين:
مقدّم الخدمة، ومتلقّيها.
وكلاهما مستخدمان، ولكلٍّ منهما حقوق وواجبات تستوجب الحماية.
غير أنّ الواقع يُظهر أنّ العمّال الرقميين مجرّدون من معظم الحقوق العمالية المعروفة.
وأنا أجادل بأنّ نموذج العمل الرقمي الحالي يقوم على صفر حقوق عمالية، لأنّ تراكم الأرباح في هذه المنصّات يتطلّب، في جوهره، تجريد العامل من حقوقه.
لا يوجد أمان وظيفي، ولا حماية اجتماعية حقيقية، ولا اعتراف بحقوق التنظيم العمالي.
حتى التأمين ضدّ حوادث العمل غالبًا ما يكون محدودًا بزمن تنفيذ المهمّة فقط، أي بين تسجيل الدخول والخروج من التطبيق.
- وماذا لو وقع الحادث بعد انتهاء المهمّة؟
- وماذا لو أُصيب العامل بمرض مزمن نتيجة سنوات من العمل؟
هذه محاولات واضحة للتنصّل من المسؤولية.
أما الحقّ في التنظيم العمالي، فيُجَرَّد منه العامل منذ البداية، لأنّ المنصّة تعيد تعريفه على أنّه شريك أو مقدّم خدمة، لا عاملًا.
وبذلك تُعفى الشركة من كلّ التزاماتها، ويُترك العامل وحيدًا.
وهنا نصل إلى سؤال: ما العمل؟ وما دور المؤسّسات الحقوقية؟
إذًا، ما الذي ينبغي علينا فعله اليوم؟ هنا يبرز الدور المحتمل، بل والدور الضروري، الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الحقوقية في تعزيز العدالة الرقمية، ولا سيما فيما يتعلق بالعمال الرقميين الذين لا يحصلون على حقوقهم نتيجة قبولهم بهذه الأنماط من العمل. والسؤال المطروح هنا هو: ما هي الحلول الممكنة؟ وما هو الدور الفعلي الذي يمكن أن تؤديه هذه المؤسسات؟
أول ما يجب الانتباه إليه هو أن المؤسسات الحقوقية تمتلك دورًا أساسيًا في هذا المجال. غير أن هذا الدور لا يمكن أن يبدأ بالمطالبة أو المواجهة، بل يجب أن يبدأ بالفهم. الفهم العميق لماهية الاقتصاد الرقمي، ومن هو العامل الرقمي، وكيف تعمل المنصات الرقمية، وما هي المعايير التي تعتمدها في إدارة العمل واتخاذ القرارات. هذه الأسئلة لا تزال بالغة الأهمية، وليس فقط في الدول العربية أو دول الجنوب، بل في مختلف دول العالم.
نحن نتحدث عن منصات رقمية تعمل ضمن منظومات اقتصادية معقدة، وترتبط بشركات تكنولوجيا عملاقة مثل أبل وغوغل وميتا ومايكروسوفت، أو ما يُعرف اختصارًا بـ«GAFAM». هذه الشركات تمتلك اليوم أكبر احتياطي نقدي سُجّل في تاريخ البشرية، وهو أمر لم يسبق له مثيل، فضلًا عن امتلاكها قوة مالية ونقدية وقانونية هائلة. كما تمتلك هذه الشركات جيوشًا من المحامين والمحاسبين الذين يعملون لصالحها، ويوفرون لها الحماية القانونية والمالية اللازمة.
وتُعد التجربة الأوروبية المعروفة باسم “أوراق أوبر” مثالًا واضحًا على ذلك، إذ كشفت هذه القضية عن كيفية تعامل هذه الشركات مع السياسيين في أوروبا الغربية، وأثارت فضيحة كبيرة. وهنا من المهم التأكيد أننا لا نتحدث عن دول تُوصَف بأنها نامية أو تعاني من ضعف في إنفاذ القانون، بل عن دول غربية متقدمة، الأمر الذي يوضح حجم النفوذ الذي تمتلكه هذه الشركات.
بناءً على ذلك، فإن لدينا دورًا أساسيًا يتمثل، أولًا، في رفع مستوى فهمنا لطبيعة هذه المنصات وطبيعة العمل الرقمي، وثانيًا، في زيادة الوعي حول ما تقوم به هذه الشركات من ممارسات، وتحسيس العمال والمستخدمين بأهمية هذه القضايا وتأثيرها المباشر على حياتهم وحقوقهم.
لكن ماذا يتطلب هذا الدور؟ يتطلب، بشكل أساسي، إنتاج مواد معرفية. فهناك نقص واضح وفادح في المواد المتاحة باللغة العربية، السهلة الوصول، والموجّهة إلى القارئ والمستمع والمشاهد العربي، والتي تتناول موضوع العمل الرقمي والمنصات الرقمية من منظور حقوقي وسياسي. وحتى عند الحديث عن القوانين، فإن ما هو متوفر غالبًا إما محدود أو غير مبسط بما يكفي.
نحن بحاجة إلى إنتاج محتوى يجيب عن أسئلة أساسية مثل: ما هو العمل الرقمي؟ ما معنى “العمل الرقمي” أو “العمل عبر المنصات”؟ ما هي المنصات الرقمية؟ ويجب أن تكون هذه المعرفة متاحة بلغة غير أكاديمية معقدة. وكما أذكر دائمًا، يمكن الاستفادة من نموذج امتحان الجنسية الكندي، الذي صُمم بطريقة تمكّن أي شخص يمتلك مهارات القراءة والكتابة الأساسية من اجتيازه، وفي الوقت نفسه لا يفقد قيمته المعرفية حتى بالنسبة لحاملي أعلى الشهادات الأكاديمية.
نحن بحاجة إلى مواد توعوية تصل إلى جميع فئات المجتمع، وتعرّف الناس بحقوقهم بشكل شامل، سواء كانوا عمالًا، أو مستخدمين، أو طلابًا، أو نقابيين، أو سياسيين، أو مهنيين في مختلف القطاعات. ويجب أن تكون هذه المواد مكتوبة، ومسموعة، ومرئية، وباللغة العربية، لأن النقص في هذا المجال كبير وواضح.
ومن أولوياتي الشخصية، حتى في عملي البحثي في كندا، التركيز على إنتاج مواد معرفية سهلة الوصول باللغة العربية. غير أن هذا المسار يتطلب اعتماد رؤية تكاملية تجمع مختلف الأطراف المجتمعية. فبعض القضايا المرتبطة بالاقتصاد الرقمي لم تعد مجرد قضايا استغلال عمالي، بل أصبحت قضايا تتعلق بالأمن القومي.
على سبيل المثال، تُعد السيادة الرقمية مسألة أمن قومي، لا تهم الحقوقيين وحدهم، بل تعني الحكومات وكافة الفاعلين الاجتماعيين في بلداننا. وهذا النقاش لا يقتصر على الدول العربية، إذ إن الاتحاد الأوروبي يعتبر السيادة الرقمية أولوية استراتيجية، ويضعها في صلب سياساته المتعلقة بالمنصات الرقمية.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى الانخراط في ورشة شاملة تتعلق بالسياسات والقوانين، تبدأ بشكل أساسي من إدارة البيانات، وسياسات جمعها، وإنتاجها، والتعامل معها. فحقنا في معرفة ما يحدث للبيانات التي تجمعها هذه المنصات لا يندرج فقط تحت بند الخصوصية الفردية، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى مسألة أمن قومي وطني وإقليمي.
فاليوم، لدينا شركات تمتلك بيانات النقل في مختلف دول العالم، وشركات أخرى تمتلك أكبر قواعد بيانات للمساكن، وأخرى تحتفظ بأكبر قدر من البيانات المتعلقة بمستخدمي الهواتف الذكية. إن أمن البيانات اليوم هو مسألة أمن قومي بامتياز، ويجب التعامل معه على هذا الأساس. وهذا يفرض على الحقوقيين، والنشطاء، والسياسيين، والأكاديميين، والمواطنين، وكذلك العاملين في مؤسسات الدولة، أن يتبنوا رؤية تكاملية مشتركة لتحديد المواقف والسياسات.
أما النقطة الثانية، فتتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمستخدمين، بما فيهم العمال الرقميون. فقوانين العمل في معظم دول العالم، بما فيها دول الشمال، أصبحت عاجزة عن مواكبة تعقيدات وأبعاد العمل الرقمي. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تبدو هذه القوانين متعثرة وغير قادرة على استيعاب هذا التحول.
وأستخدم هنا تشبيهًا أكرره كثيرًا: الفضاء الرقمي يشبه أرضًا جديدة اكتشفتها الرأسمالية، كما لو أنها اكتشفت كوكب المريخ. فمن يحكم هذه العلاقة في هذا الفضاء؟ هم أول الواصلين، تمامًا كما حدث تاريخيًا في القارة الأمريكية، حين وضع أوائل المستوطنين قوانينهم الخاصة لغياب أي إطار قانوني منظم.
الأمر نفسه ينطبق على الفضاء الرقمي. فالرأسمالية لم تكتشف المريخ، لكنها اكتشفت “البعد الرقمي”، ودخلته بقوة، وفرضت قوانينها الخاصة، التي أصبحت جزءًا من الواقع المؤسس للتفاعلات الاجتماعية والإنسانية في العالم الرقمي.
وتعمل هذه الشركات، في هذا السياق، وفق ثلاثة مبادئ أساسية: أولًا، سهولة الوصول إلى رأس المال، ولا سيما عبر رأسمالية المخاطر. ثانيًا، العمل وفق مبدأ “لا تطلب الإذن، بل اطلب المغفرة لاحقًا”. فهي لا تدخل الأسواق بنية الامتثال للقوانين القائمة، بل تسعى إلى فرض نموذجها الخاص وتعديل القوانين بما يتناسب مع مصالحها.
وبناءً على ذلك، نحن بحاجة إلى ورشة واسعة لإعادة النظر في السياسات والقوانين، وفي مقدمتها قوانين العمل، وأنظمة الحماية الاجتماعية، وتعريف مفاهيم العمل والعامل ورب العمل والمسؤوليات والواجبات. كما يجب العمل على إنتاج بدائل، بما في ذلك منصات محلية، إذ إن مثل هذه البدائل موجودة بالفعل في العالم، وتنمو وتتوسع.
إلى جانب ذلك، يبقى موضوع البيانات محوريًا، كما يبقى دعم التنظيم العمالي وتنظيم المستخدمين أمرًا أساسيًا. فنحن كثيرًا ما نتحدث عن حقوق العمال الرقميين، لكن من الضروري أيضًا العمل على حقوق المستخدمين الرقميين، لأنهم جزء أساسي من هذه المنظومة.
ولا يمكن إنجاز كل ذلك دون تبني رؤية تكاملية شاملة، تجمع مختلف الأطراف الاجتماعية، وفي مقدمتها السلطات التشريعية والتنفيذية في الدول العربية.
شكرًا جزيلًا للدكتور ربيع فخري جميل على هذه المشاركة الغنيّة في حلقتنا من بودكاست «دردشة عن حقوق الإنسان».
ونشكر جميع المستمعين على المتابعة.
يمكنكم الاستماع إلى البودكاست عبر الموقع الرسمي لبرنامج التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان، أو من خلال المنصات التالية: سبوتي فاي، ساوند كلاود، جوجل بودكاست وابل بودكاست.
كما ندعوكم لمتابعتنا عبر صفحاتنا على فيسبوك، تويتر، وإنستغرام، والاطلاع على أكثر من 200 تكتيك موثَّق من مختلف أنحاء العالم، متوفر باللغتين العربية والإنجليزية.
كان معكم أيمن ملحيس، منسق اول وسائل الإعلام الرقمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان.
شكرًا لكم، ونلتقي في حلقة جديدة من البرنامج.