مرحباً بكم في حلقة جديدة من بودكاست “دردشة عن حقوق الإنسان” لبرنامج التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان وحلقتنا اليوم بعنوان: “في قلب العدالة المناخية؛ حوار مع هلا مراد حول البيئة وحقوق الإنسان“.
هلا مراد هي مدافعة عن العدالة المناخية والمديرة التنفيذية لجمعية الدبين. تتمتع بخبرة واسعة في السياسات البيئية والمدافعة في المناطق المتأثرة بالنزاعات. استخدمت مراد نهجاً قائماً على حقوق الإنسان في معالجة قضايا المناخ، وشاركت بفاعلية في مفاوضات مؤتمر الأطراف السابعة والعشرين بشأن الخسائر والأضرار. كما كان لها دور محوري في تعزيز العدالة البيئية القائمة على الحقوق من خلال مشاركتها النشطة في الفريق العامل المعني بالبيئة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التابع للشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إن منظور هلا الإقليمي وشغفها بالتوزيع العادل للموارد يشكل إضافة قيمة ودائمة لقيادة مجلس الإدارة.
من هي هلا مراد وكيف بدأت رحلتك في العمل البيئي والحقوقي، وما الذي ألهمك للدخول في هذا المجال؟ أهلاً وسهلاً فيك أستاذة هلا.
شكرًا جزيلًا لأعزّائنا الروّاد في مجال حقوق الإنسان في برنامج التكتيكات الجديدة.
لقد كان هذا النهج نقطة البداية التي من خلالها تعلّمنا كيف نسلّط الضوء على الجوانب التي لم تكن تؤخذ في الحسبان في العمل الحقوقي.
وأنا في الحقيقة ممتنّة جدًا قبل أن أتحدّث أكثر عن نفسي لبرنامج التكتيكات الجديدة لما قدّمه وأسهم به في مسيرتنا، سواء على الصعيد الشخصي أو في مسيرة جمعية دبين للتنمية البيئية.
فاسمحوا لي أن أتقدّم بجزيل الشكر لكم، وللبودكاست الذي أراه سيكون إضاءة مهمّة على مفاهيم حقوق الإنسان، وعلى ارتباطاتها وتقاطعاتها مع عدد من القضايا المختلفة.
كما تفضّلتم، فإنّ اهتمامي بقضايا البيئة والتغيّر المناخي يعود إلى أكثر من سبع عشرة سنة، على المستويين المحلي والوطني في الأردن، وكذلك على المستوى الإقليمي في المنطقة العربية، بل وعلى المستوى العالمي أيضًا.
كما تعلمون، فإنّ قضية البيئة اليوم لم تعد شأنًا محليًا فحسب؛ إذ يمكننا تنفيذ مبادرات ومشروعات محلية والعمل على المستوى الوطني، ولكن عندما نفكّر بعمق، نجد أنّ التفكير يجب أن يكون من منظور عالمي أوسع، لأنّنا للأسف نؤثّر في بعضنا البعض بدرجة تفوق ما نتصوّر.
لقد بدأتُ مسيرتي في هذا المجال منذ سنٍّ مبكرة جدًا؛ فقد كنت ناشطة بيئية منذ أيام المدرسة.
وحين كبرت، كنت أميل إلى دراسة تخصّصات مرتبطة بالعلوم البيئية أو علوم الأرض، إلا أنّني وجدت نفسي أتّجه نحو الناس والمجتمع، فدرست علم الاجتماع في الجامعة الأردنية، ثم أكملت دراستي العليا في علم الاجتماع البيئي.
كانت رسالتي للماجستير حول التغيّرات المناخية وتأثيرها على المجتمعات المحلية، وتحديدًا في وادي الأردن.
شغفي الأساس يتمحور حول كيفية ربط البيئة بالمجتمع والناس، وكيف يمكن أن تصبح القضايا البيئية محورًا من محاور عمل المجتمع نحو تقدّمه، وجودة حياته، وسعيه إلى الأفضل نحو مجتمع يتمتّع بحقوقه في السكن اللائق، والأرض، والهواء النقي، والمياه، ومعالجة فجوات المساواة المرتبطة بالتغيّرات المناخية، وهي قضايا سنتناولها خلال هذا البودكاست.
هذه المسيرة لم تنبع فقط من واقع مهني، بل من واقع احتياج حقيقي.
فقد نشأتُ في بيئة تعاني من تحدّيات بيئية كبيرة؛ فأنا من محافظة الزرقاء في الأردن، وهي من أكثر المحافظات التي تواجه إشكالات بيئية عميقة: ندرة المياه، التصحّر، والتلوث الهوائي الناتج عن وجود مصفاة البترول الوحيدة في الأردن.
كل ذلك جعلني، منذ صغري، أدرك أننا بحاجة إلى أن نكون أكثر انخراطًا ومشاركة في معالجة هذه القضايا.
كيف تفسرين العلاقة بين العدالة المناخية وحقوق الإنسان، وكيف يمكن أن نعتبر أن التغير المناخي شكل من أشكال عدم المساواة والتمييز؟ خاصة أن المنطقة التي نحن فيها تعاني من مشاكل بالعدالة المناخية وأكيد مرتبطة بحقوق الإنسان. هل يمكن ربط هذه المواضيع مع بعضها؟
حتى نجعل الموضوع أكثر سهولة على المستمعين، ولئلا يشعروا بأنه موضوع تقني معقّد، علينا أن نعترف جميعًا بأنّ التغيّرات المناخية اليوم تؤثّر في حياتنا جميعًا، بل في حياة الكوكب بأسره.
فمن يعيشون في شمال الكرة الأرضية أو جنوبها، في شرقها أو غربها أو وسطها، الجميع متأثرون بشكل كبير بظاهرة التغيّر المناخي. غير أنّ حدة هذه التغيّرات ومظاهرها تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، ومن إقليم إلى آخر.
وعندما نتحدث عن العدالة المناخية، وعن العلاقة بين حقوق الإنسان والمناخ، فإننا نتحدث في جوهر الأمر عن نقطة التقاء بين البيئة والأخلاق.
فالسؤال الجوهري هو: هل الممارسات البيئية التي يقوم بها الإنسان اليوم تنبع من وازعٍ أخلاقي؟
أين موقع الأخلاق في تعاملنا مع البيئة في هذا العالم المليء بالوفرة، والذي يمكن وصفه أحيانًا بأنه “متوحّش بفردانيته”، إذ يسعى الجميع إلى تحقيق أعلى درجات الرفاهية، واستغلال أكبر قدر من الموارد المتاحة على هذا الكوكب؟
إنّ الممارسات الفردية والجماعية في المجتمعات البشرية أدّت، بشكل أو بآخر، إلى استنزاف هائل لمواردنا الطبيعية.
فمنذ بدايات القرن العشرين، ومع انطلاق الثورة الصناعية، أخذت المجتمعات تفكّر في كيفية استغلال الموارد بأقصى طاقتها، وكان النفط من أبرز هذه الموارد التي استُخدمت بشكل مفرط.
وللأسف الشديد، ما زالت الدول والمجتمعات حتى اليوم مدمنة على الوقود الأحفوري سواء كان نفطًا أو غازًا أو فحمًا حجريًا مما أدى إلى انبعاثات ضخمة من الغازات الدفيئة التي رفعت درجات حرارة الكوكب.
ومن هنا، علينا أن نفهم ما المقصود بالتغيّر المناخي:
هو تغيّرات طويلة الأمد تؤثر على أنماط الطقس التي نعيشها، سواء بشكل موسمي أو سنوي أو على مدى عقود.
نلمس هذه التغيّرات في مظاهر عديدة، منها ازدياد موجات الجفاف التي تضرب الأردن منذ أكثر من سبع سنوات، وامتداد فصل الصيف، وقِصَر فصل الشتاء، واختفاء فصلي الربيع والخريف أو تقلّص مدتهما؛ فبعد أن كان الربيع يمتد أربعة أشهر، أصبح بالكاد يستمر شهرًا ونصف الشهر.
كلّ هذه المظاهر التي نشهدها اليوم ما هي إلا دلائل واضحة على التغيّرات المناخية.
لكن، ماذا يعني هذا في إطار مفهوم العدالة؟
للأسف، أثّر التغيّر المناخي بشكل مباشر على حياة الناس وأنماط عيشهم، وخصوصًا العاملين في القطاع الزراعي الذين تراجعت دخولهم نتيجة تغيّر معدّلات تساقط الأمطار.
واليوم يُعدّ الأردن من أكثر دول العالم فقرًا وشحًّا في المياه، وأيّ موسم جفاف كما حدث في الموسم الماضي يؤدي إلى انخفاض الحصص المائية للأفراد.
فحصة الفرد الأردني لا تتجاوز حاليًا 61 مترًا مكعبًا سنويًا، مقارنةً بالحدّ الأدنى العالمي للفقر المائي البالغ 1000 متر مكعب!
ويُتوقّع خلال السنوات الثلاث المقبلة أن تنخفض هذه الحصة إلى ما دون 30 مترًا مكعبًا في السنة، مما سيزيد من الإجهاد المائي والصحي والنظافي، بل وسيؤثر أيضًا على القطاعات الصناعية والتجارية.
إنّ هذا الوضع ينعكس على أنماط الاقتصاد والمعيشة، ويؤدي إلى اختلال التوازن الذي يدفع ثمنه في المقام الأول الفئات المهمّشة والفقراء وسكان المناطق النائية.
وعندما نتحدث عن الكوارث المناخية، مثل الفيضانات، يمكن أن نذكر ما حدث مؤخرًا في مناطق حسبان والجنوب، حيث فقد أحد الرعاة ابنه الذي جرفته السيول، واستمرّت عمليات البحث عنه أكثر من شهر من دون العثور على جثمانه.
هذه الحادثة المؤلمة تجسّد حالة من انعدام المساواة في القدرة على التكيّف مع التغيّرات المناخية بين المجتمعات، إذ هناك من يتمتّعون بوسائل حماية ومنعة، في حين يعجز آخرون عن التكيّف ومواصلة حياتهم الطبيعية.
إنّ العدالة المناخية تتخذ أكثر من بُعد؛ فهناك العدالة المناخية على المستوى العالمي، إذ تُطرح الأسئلة حول مدى عدالة أن يتمتّع سكان دول الشمال العالمي بالحماية والموارد، بينما يعاني سكان الجنوب العالمي من تبعات التغيّر المناخي رغم أنهم الأقل مسؤولية عن مسبباته.
فهذه الدول الغنية هي التي راكمت الثروة عبر استغلال الموارد والانبعاثات لعقود طويلة، في حين تتحمّل الدول الفقيرة اليوم النتائج الكارثية لتلك السياسات.
وعلى المستوى الوطني أيضًا، نرى تفاوتًا واضحًا في القدرة على التكيّف.
ففي الأردن مثلًا، هل يتمتع سكان عمّان بالحماية نفسها التي يتمتع بها سكان معان أو الأزرق؟
هل يملك سكان القرى والبوادي الإمكانات نفسها التي يملكها سكان المدن؟
الإجابة المؤسفة هي: لا.
فالفجوة كبيرة بين المدن والأرياف، وبين المراكز والأطراف، وحتى بين المدن الكبرى والصغرى.
وللأسف، لا تتمتع جميع هذه المناطق بمستوى الحماية نفسه من آثار التغيّر المناخي، سواء في ما يتعلق بارتفاع درجات الحرارة، أو الإجهاد الحراري، أو الفيضانات، أو الأمطار الغزيرة.
إنّ فقدان الإنسان لاستقراره المعيشي والاقتصادي نتيجة هذه التغيّرات يجعلنا ندرك أن قضية المناخ ليست قضية تقنية فحسب، بل هي قضية عدالة وحقوق إنسان في جوهرها، تمسّ الحق في الحياة الكريمة، والبيئة السليمة، والمستقبل الآمن للجميع.
كيف تساهم الجمعية في تعزيز الوعي البيئي وحقوق الإنسان في الأردن وخارج الأردن؟ لأننا نتحدث ليس فقط في الأردن، نتحدث عن المنطقة وعن العالم. وما هي أبرز المشاريع والمبادرات التي تقودينها من خلال جمعية الدبين؟ يمكن فقط تسليط الضوء على هذه المواضيع؛ لأن الموضوع صار أكبر من أنه مجرد منطقة أو حي أو بلد.
جمعية دبين للتنمية البيئية هي جمعية أُسّست عام 2010، وكان هدفها الأساسي حماية الغابات، ولهذا حملت اسم دبين للتنمية البيئية.
وغالبًا ما أحب أن أقول للمستمعين إنّ غابات دبين الموجودة اليوم في الأردن تُعدّ من أهم الغابات الطبيعية في المنطقة.
وأؤكد على كلمة الطبيعية لأنها آخر امتداد طبيعي لغابات الصنوبر الحلبي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.
قد تبدو هذه العبارة معقدة بعض الشيء، لكنها في الواقع بسيطة: فغابات الصنوبر الحلبي تنتشر عادة في شمال الكرة الأرضية أكثر من جنوبها، وغابات دبين تمثّل الحدّ الجنوبي الأخير لهذا النوع من الغابات؛ أي أنه بعد غابات دبين، لا توجد أي غابة صنوبر حلبي طبيعية في جنوب الكرة الأرضية.
وهذا ما يجعلها غاية في الأهمية.
ولذلك، حملت الجمعية هذا الاسم لتبقى فكرة أهمية غابات دبين حاضرة في وعينا، ولتذكّرنا بضرورة حمايتها وصونها.
تأسست الجمعية، كما ذكرت، عام 2010 بهدف حماية هذه الغابات والدفاع عنها، والتعريف بها ليس فقط كموقع سياحي، بل كنظام بيئي طبيعي يجب الحفاظ عليه.
ورغم أن هذا الهدف يبدو بعيدًا عن ملف التغيّر المناخي، فإنّ الغابات في جوهرها تقع في قلب العمل المناخي؛ لأنها تمثّل أحد أهم النظم البيئية التي تحافظ على توازن الكوكب، سواء كانت في الأمازون أو في دبين.
جميع الغابات في العالم، مهما كان موقعها، تؤدي الدور الحيوي نفسه في الحفاظ على استقرار المناخ.
أما بالنسبة للجمعية، فقد بدأنا في ربط عملنا البيئي بحقوق الإنسان والعدالة المناخية منذ عام 2016، أي بعد ست سنوات من تأسيس الجمعية.
قبل ذلك، لم يكن لدينا ملف واضح في هذا المجال، لكن اتفاق باريس لعام 2015 وأهداف التنمية المستدامة شكّلا نقطة تحوّل مهمّة.
لقد دفعانا إلى الانتقال من الحديث عن البيئة باعتبارها مسارًا توعويًا أو سلوكيًا، إلى النظر إليها باعتبارها مسارًا حقوقيًا قائمًا على العدالة.
فلم يعد كافيًا أن نقول “على الحكومة أن توصل المياه للمواطنين” باعتبارها خدمة، بل أصبح علينا أن نقول: إنّ الحصول على مياه صالحة للشرب هو حق من حقوق الإنسان، كما نصّت عليه المواثيق الدولية التي انضم إليها الأردن.
هذه المواثيق تساعدنا على الانتقال من النهج القائم على الخدمة والرعاية إلى النهج القائم على الحقوق، وخصوصًا في القضايا البيئية.
كثيرًا ما يُنظر إلى المياه الآمنة، أو السكن اللائق، أو الهواء النقي على أنها خدمات أو امتيازات، لكنها في الحقيقة حقوق أساسية يجب الدفاع عنها ضمن منظومة حقوق الإنسان.
ومن هنا، بدأنا هذا المسار منذ عام 2016، وشرعت الجمعية في تنفيذ عدد من المشاريع المهمة.
ومن أبرز هذه المشاريع كان تعاوننا مع برنامج التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان من خلال منهجية خمس خطوات للدفاع والمناصرة، وهي التجربة التي انضممنا إليها عام 2018 وأحدثت تحوّلًا حقيقيًا في طريقة تفكيرنا بقضايا البيئة من منظور حقوقي.
من خلال هذا التعاون، استطعنا تنظيم حملات مناصرة أسهمت في إيقاف مشاريع اقتصادية كان من شأنها الإضرار بمناطق بيئية حسّاسة، كما نفّذنا حملات ركّزت على دور النساء في صنع القرار البيئي.
وكان من بين إنجازاتنا أيضًا صياغة الخريطة الحقوقية البيئية في الأردن، وهي مبادرة مهمة نُفذت عام 2020 بعد جائحة كورونا، التي ألهمتنا التفكير في كيفية حماية حقوق الناس في ظل الأزمات والكوارث البيئية.
كما رأينا في فيضانات باكستان عام 2022, يمكن أن تدمّر مجتمعات بأكملها، وتكلّفها مليارات لإعادة الإعمار.
ومن هنا جاءت فكرة إعداد خريطة حقوقية تساعد في بناء منظومة حماية ودفاع عن الحقوق البيئية والإنسانية في مواجهة مثل هذه المخاطر.
بالطبع، الحديث هنا لا يقتصر على التشريعات والقوانين، رغم أهميتها، بل يتعدّاها إلى السياسات العامة والتطبيق العملي على أرض الواقع.
نحن في الجمعية نؤمن بأنّ صياغة القوانين والسياسات هي الخطوة الأولى فقط، وأنّ الأثر الحقيقي يتحقق من خلال التنفيذ الفعلي والمشاريع الميدانية التي تحدّ من آثار التغيّر المناخي ونقص الموارد والتلوث.
نحن نتناول الإشكاليات البيئية من منظور العدالة، أي أنها لا تقتصر على المناخ وحده، بل تشمل ندرة الموارد، والتلوث، واختلال التوازن البيئي.
هذه القضايا الثلاث يجب أن تُدرج ضمن منظومة حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وألا تُفصل عنها.
كثيرون ما زالوا يرون الحقوق البيئية “حقوقًا تكميلية” أو “ثانوية”، لكنها في الحقيقة حقوق أساسية؛ فلا يمكن للإنسان أن يعيش حياة كريمة وعادلة دون بيئة سليمة.
المياه، على سبيل المثال، شرط للحق في الحياة، والسكن اللائق شرط للحق في الأمان.
ولهذا نؤمن بأنّ الحقوق البيئية هي حقوق إنسان في ذاتها، وهي أيضًا مدخل لضمان الحقوق الأخرى.
لقد حاولت الجمعية العمل على بناء جسر بين مجتمع الحقوقيين العاملين في حقوق الإنسان خاصة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمتخصصين البيئيين التقنيين الذين يركّزون على قضايا المناخ دون التعمق في البعد الحقوقي.
وهذا الجسر ما زلنا نعمل على ترسيخه وتوسيعه لأنه مهم جدًا، رغم أنه ليس سهلًا إطلاقًا، خاصة وأن هذا الفكر ما زال جديدًا نسبيًا، ليس في الأردن فقط بل في العالم بأسره.
فالاعتراف بـ البيئة كحق من حقوق الإنسان لم يتم رسميًا إلا في عام 2022، أي قبل ثلاث سنوات فقط.
وهذا يعني أن النضال الطويل الذي خاضه النشطاء على مدى خمسين أو ستين عامًا من أجل إقرار هذا الحق تُوّج أخيرًا في ذلك العام، ومع ذلك فإن المسيرة لم تنتهِ بعد؛
لأنّ الاعتراف بالحق شيء، وتحقيقه على أرض الواقع شيء آخر تمامًا.
يمكن خلال النقاش على موضوع أننا الآن بدأنا نعترف أن الحقوق البيئية هي حقوق إنسان وأنه تم تتويج هذا الشيء، كيف تشعرين أو تقيّمين وعي المجتمع المدني والعربي بقضايا المناخ والعدالة البيئية؟ هل تشعرين أنه مرتفع؟ ما هو رأيك؟
أرى أن اليقظة البيئية في طور التشكّل؛ فلا يمكن القول إننا نحقق خطوات كبيرة حتى الآن، لكنها وإن كانت بطيئة، خطوات حقيقية وموجودة. هناك وعي يتكوّن، وتحوّل إيجابي بدأ يظهر.
وأعتقد أن جزءًا كبيرًا من هذا التقدّم يعود إلى التحالفات والشبكات والتكتلات التي تنشأ بين مؤسسات المجتمع المدني.
وأتمنى أن تكون مؤسسات المجتمع المدني التي تستمع إلينا الآن تستشعر أهمية هذا الدور.
لقد أدركنا في جمعية دبين للتنمية البيئية منذ عام 2018 أن العمل الفردي، مهما كان جادًا، لا يكفي لتحقيق التغيير المنشود.
فقد عملنا في بداياتنا منفردين لمدة سنتين أو ثلاث، ثم اكتشفنا أنّ التحالفات ضرورية: فهي تمنحنا الدعم، وتغني رؤيتنا بآراء مختلفة، وتساعد في الحشد والتأثير والتقبّل المجتمعي.
ومن دونها، لا يمكن أن تكون هناك مسيرة فاعلة أو مستدامة.
ومنذ ذلك الحين، أصبحنا أعضاء في أكثر من سبعة عشر اتحادًا وشبكة وتحالفًا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
فنحن أعضاء في الاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN)، وفي شبكة المنظمات غير الحكومية للتنمية العربية (ANND)، وفي التحالف الدولي للموئل (Habitat International Coalition)، وكذلك في شبكة العمل المناخي الدولية (Climate Action Network)، إلى جانب عدد من التحالفات المحلية النوعية مثل تحالف الجمعيات من أجل الغابات وغيره.
نحن نحاول من خلال هذه الشبكات أن نعمل بشكل تشاركي، لأننا نؤمن أن بناء المستقبل البيئي والحقوقي لا يتم إلا من خلال العمل الجماعي.
فإذا أردنا حقًا رؤية مستقبلية لمجتمع مدني قادر على أن يخلق مساحاته الحرة والواعية للتفكير والتجريب، ويقدّم نماذج إيجابية في العدالة المناخية وحقوق الإنسان، فعلينا أن نعمل ضمن شبكات وتحالفات أو حتى أن نؤسس شبكات جديدة تكون قادرة على التأثير في الرأي العام، وتشارك في صوغ المصير البيئي القادم.
وليس هذا من باب الوعظ أو المثالية، بل من باب المسؤولية المشتركة.
فكل مؤسسة مجتمع مدني، أيًّا كان مجال عملها، يمكن أن تدمج الرسالة البيئية في نشاطها.
قد يبدو غريبًا أن نقول ذلك، ولكنني أؤمن أن كل المؤسسات، حتى الاقتصادية منها، يجب أن تتحدث عن البيئة.
فليس هناك مؤسسة مجتمع مدني لا تنتج نفايات، أو لا تترك أثرًا كربونيًا، أو لا تستطيع أن تغيّر سلوكًا بيئيًا بشكل إيجابي.
ولهذا، فإنّ كل مساحة عمل، وكل منتدى، وكل مشروع هو فرصة لإيصال رسالة بيئية واضحة تؤثر في سلوك المجتمع والأفراد، وتسهم في مواجهة النمط الاستهلاكي المفرط الذي أصبحت مؤسسات المجتمع المدني نفسها للأسف جزءًا منه أحيانًا.
إنّ الوعي البيئي في الأردن والمنطقة بدأ يتشكّل بالفعل، لكننا ما زلنا في المراحل الأولى.
هي يقظة حقيقية، نعم، لكنها بحاجة إلى مزيد من الجهد والعمل والتعاون حتى تتحول إلى مسيرة راسخة ومستمرة نحو التغيير المنشود.
كيف يمكن للشباب والنساء على وجه الخصوص أن يكونوا في قلب حراك العدالة؟ حكينا عن المؤسسات ودور التشبيك، بس دور الأشخاص والأفراد والجندر، فما رأيك بوضع المستقبل ووضعنا في المستقبل والمناخ في منطقتنا؟
قبل بضعة أسابيع، كانت غريتا تونبرغ، وهي واحدة من أبرز الناشطين السويديين في مجال التغيّرات المناخية، حديث العالم مجددًا.
غريتا شابة لم تتجاوز العشرين من عمرها، بدأت نضالها البيئي منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها، حين بدأت تفكر كيف يمكن لطفلة صغيرة أن تُحدث تأثيرًا في قضية تغيّر المناخ.
واستمر نضالها حتى اليوم، وكانت ضمن المشاركين على متن سفينة أسطول الحرية التي حاولت كسر الحصار المفروض على غزة.
ربما تابع بعض مستمعينا هذه الحادثة، إذ تعرّضت غريتا حينها لانتقادات من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي قال عنها إنها “فتاة تحتاج إلى ضبط النفس والعلاج النفسي”.
لكنها ردّت عليه بذكاء قائلة: “إذا كنتُ أحتاج إلى علاج نفسي، فأنا أتمنى أن يكون في هذا العالم مزيد من النساء الثائرات الغاضبات اللواتي يحتجن إلى دعم نفسي.”
وفي عبارتها تلك، عبّرت عن فكرة عميقة: نحن بحاجة إلى نساء ثائرات وغاضبات من أجل التغيير.
انطلاقًا من هذه الفكرة، أقول إننا في العالم العربي ربما لا نحتاج إلى “نساء غاضبات” بالمعنى الحرفي، بل إلى ناشطات فاعلات في القضايا البيئية.
فالمرأة والشباب، رغم دورهما المحوري، ما زالا الأكثر تهميشًا في العمل المناخي.
وهذا ليس مجرد شعار أو “موضة” كما يظن البعض، بل هو واقع موثّق بالأرقام والإحصاءات.
فعلى المستوى العالمي، ما زال تمثيل النساء في مفاوضات المناخ الرسمية لا يتجاوز 14% إلى 15% من مجموع المفاوضين، بينما تقلّ نسب تمثيل الشباب أكثر من ذلك بكثير.
وهذا الغياب لا يقتصر على المستوى الدولي، بل ينعكس أيضًا على المستوى المحلي؛ فصناعة القرار البيئي في بلداننا، بما فيها الأردن، ما زالت ذكورية الطابع في كثير من الأحيان.
في دراسة أجريناها على عدد من البلديات الأردنية، وجدنا أن النساء يُستبعَدن من القرارات البيئية لاعتبارات نمطية، كأن يقال إنّ هذه المسائل “ميدانية” أو “تقنية”، مثل فتح الطرق أو إغلاق الآبار، وهي قضايا “يصعب على النساء فهمها”.
هذه الصور النمطية ما زالت تقيّد مشاركة النساء في القيادة البيئية، وتجعل حضورهن وتأثيرهن محدودين، ليس لأنهن غير مؤهلات، بل لأن النظام الاجتماعي والسياسي لم يمنحهن بعد المساحة الكافية للمشاركة.
كما أن الشباب أيضًا يواجهون التحدي نفسه.
نحن بحاجة إلى شباب واعٍ ومدرَّب يدرك تحديات المستقبل، من تغيّر المناخ، والفقر، والبطالة، وتحوّلات سوق العمل، إلى قضايا الهجرة والأمن الغذائي.
لكن الواقع يشير إلى أن إشراك الشباب في مؤتمرات المناخ لا يزال رمزيًا وشكليًا.
فغالبًا ما نسمع تصريحات رسمية تقول: “لقد أخذنا مجموعة من الشباب لتمثيل الأردن في مؤتمر المناخ”، وكأن حضور خمسة أو ستة شبّان يكفي لتمثيل أربعة ملايين شاب أردني!
بينما السؤال الحقيقي هو:
أين استراتيجية وزارة الشباب حول تغيّر المناخ؟
هل توجد سياسات تربط بين المناخ والتعليم والعمل والهجرة؟
هل هناك دراسات تبحث في أثر تغيّر المناخ على حياة الشباب ومستقبلهم؟
الجواب للأسف هو: لا.
لا توجد حتى الآن سياسات متكاملة تُشرك الشباب في صُنع القرار البيئي أو المناخي.
فوجود عدد محدود من الشباب في المؤتمرات لا يعني مشاركة حقيقية، بل قد يكون حضورًا شكليًا.
إنّ ما نحتاج إليه ليس تمثيلًا رمزيًا، بل مشاركة جوهرية واعية.
نريد شبابًا يقودون التغيير، لا مجرد حضور في الصور الرسمية.
نريد نساءً فاعلات، لا مجرّد أسماء في القوائم.
تمكين النساء والشباب في قضايا المناخ ليس ترفًا ولا تجميلًا لمفهوم المساواة، بل هو ضرورة واقعية؛ لأن النساء يتحمّلن أعباء الرعاية والمسؤوليات الاجتماعية الأكبر، ولأن الشباب هم من سيواجهون مستقبلًا تتسارع فيه التحديات المناخية والاقتصادية.
لهذا، يجب أن تكون برامج التمكين والتدريب والتوعية موجّهة إليهم بشكل مباشر، ليصبحوا قادرين على المشاركة الفاعلة والتأثير الحقيقي، لا أن يكونوا مجرّد حضور في الصفوف الخلفية.
نحن بحاجة إلى مسيرة وعي حقيقية، لا ديكورًا تمثيليًا.
وبحاجة إلى جيل من النساء والشباب المؤمنين بأن العدالة المناخية ليست شعارًا، بل طريقًا طويلًا يبدأ بالمعرفة وينتهي بالفعل.
ما رأيك نلخص رسالة من حضرتك للمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان والبيئة في العالم العربي بما أننا تحدثنا عن الشباب والقضايا المتوفرة والموجودة. ما هي الرسالة التي يمكنك أن تشاركيها معهم؟
قد تبدو رسالتي اليوم غريبة بعض الشيء، لكنني آمل أن تصل كما أريد لها أن تصل.
قبل ثلاثة أيام فقط، أصدرت محكمة حقوق الإنسان الأمريكية فتوى استشارية تاريخية بشأن تغيّر المناخ وعلاقته بحقوق الإنسان، وجاء بيانها في غاية التقدّم والجرأة.
أحد البنود اللافتة في هذه الفتوى كان الاعتراف بأن البيئة يمكن أن تُعدّ شخصية اعتبارية تدافع عن نفسها.
قد يبدو هذا المفهوم غير مألوف، لكنه يعني ببساطة أنّ البيئة لا تحتاج إلى من يدافع عنها نيابةً عنها لا إليّ ولا إليك فهي قادرة على أن تحتجّ بذاتها.
فمن الممكن، مثلًا، أن يقوم النائب العام برفع دعوى ضد من يقطع الأشجار، حتى دون وجود جهة شاكِية، لأنّ الأشجار نفسها تُعدّ طرفًا ذا حق في القضية.
ربما تبدو الفكرة غريبة، لكنها تحمل دلالة عميقة:
فالبيئة ليست كائنًا صامتًا، بل كائن حيّ له ردّ فعل.
نحن غالبًا لا ندرك أننا ندافع عن أشياء لا نلمسها بأيدينا مباشرة نرى الشجرة، لكننا لا نرى الأوكسجين الذي تمنحنا إياه، ولا نرى التوازن البيئي الذي تخلقه من حولنا.
وهكذا تصبح المعادلة في أذهان البعض غير منصفة: كيف نوقف مشروعًا يُشغِّل ثلاثين عاملًا من أجل “مجرد” أربعين شجرة؟
لكن الحقيقة أن تلك الأشجار الثلاثين تمنحنا توازنًا طبيعيًا لا يُقدّر بثمن، وتؤدي دورًا في حياة الكوكب أعظم من أي مكسب مادي آنٍ.
غير أنّ هذا الوعي لا يزال غائبًا عن الذهن المادي الذي يقيس كل شيء بمنطق الربح والخسارة.
من هنا تأتي الشجاعة الحقيقية: أن ندافع عن ما لا يُلمس، أن نؤمن بما لا يُرى.
فمن السهل أن تدافع عن حقوق العمال لأنّ الانتهاك ملموس، اقتطاع من الأجور، أو حرمان من الضمان الاجتماعي، أو انتهاك للحقوق الصحية.
أما في العمل البيئي، فإننا ندافع عن قضايا غير ملموسة مباشرة، عن حياة طويلة الأمد، عن مستقبل الأجيال القادمة.
لهذا أقول إنّ علينا أن نتحلّى بالشجاعة والصبر.
فالنتائج في عملنا لا تظهر سريعًا، وربما لا نراها على المدى القريب، لكنها تتحقق مع الزمن.
قد لا نُدرك أهمية احتجاجٍ أوقف مشروعًا كان سيُدمّر غابة، لكن بعد سنوات، عندما تبقى تلك الغابة حيّة، سنُدرك أننا أنقذنا توازنًا طبيعيًا كان يمكن أن يضيع.
إنّ العمل البيئي يحتاج إلى نفسٍ طويل وإيمانٍ عميق.
نحن نزرع بذورًا اليوم، قد لا نراها غدًا، لكنها ستثمر في المستقبل لتُبقي الأرض حيّة، معطاءة، قادرة على تلبية احتياجات البشر وصون حقوقهم الأساسية.
رسالتي لكل ناشطة وناشط بيئي:
تحلّوا بالشجاعة، واصبروا، واستمرّوا لأنه ليس أمامنا طريق آخر.
صحيح أنّ القضايا الحقوقية لا تتغير بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى الجهد والوقت والتراكم، ولهذا يظلّ العمل في مجال حقوق الإنسان عملاً صعبًا، لكنه ضروري.
نشكر الأستاذة هلا مراد، المديرة التنفيذية لجمعية دبين للتنمية البيئية ومدافعة عن العدالة المناخية، على مشاركتها الغنية في هذه الحلقة من بودكاست “دردشة عن حقوق الإنسان“.
ونشكر جميع المستمعين على المتابعة.
يمكنكم الاستماع إلى البودكاست عبر الموقع الرسمي لبرنامج التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان، أو من خلال المنصات التالية: سبوتي فاي، ساوند كلاود، جوجل بودكاست وابل بودكاست.
كما ندعوكم لمتابعتنا عبر صفحاتنا على فيسبوك، تويتر، وإنستغرام، والاطلاع على أكثر من 200 تكتيك موثَّق من مختلف أنحاء العالم، متوفر باللغتين العربية والإنجليزية.
كان معكم أيمن ملحيس، منسق اول وسائل الإعلام الرقمية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التكتيكات الجديدة في حقوق الإنسان.
شكرًا لكم، ونلتقي في حلقة جديدة من البرنامج.