في لحظات الحرب والكوارث، حين يختفي الأمان وتتوقف لغة الحياة، يبقى هناك من يصرّ على فتح نافذة صغيرة للعالم كي يرى الحقيقة. الصحفيون في مناطق النزاع ليسوا مجرد ناقلين للأخبار أو باحثين عن سبق صحفي؛ إنهم أشبه بالمسعفين الذين يحملون الكاميرا بدلاً من حقيبة الإسعاف، والقلم بدلاً من الضماد. عملهم في جوهره فعل إنساني، لأنه يضع حياة الآخرين وحقوقهم في صميم رسالته.
منح الضحايا صوتًا
عادةً ما يُختزل العمل الإنساني في تقديم الغذاء والدواء والمأوى، غير أن نقل صوت الضحايا وتوثيق معاناتهم لا يقل أهمية. فالصحافة هنا تتحول إلى شريان حياة، تمنع طمس الجرائم، وتذكّر العالم أن خلف الأرقام وجوهاً وقصصاً وأطفالاً ينتظرون الإنقاذ.
في غزة مثلاً، لم تكن صور المستشفيات المدمّرة أو شهادات الناجين لتصل إلى ملايين الناس حول العالم لولا وجود صحفيين خاطروا بحياتهم لنقل الكلمة والصورة. هكذا يصبح الصحفي شريكاً مباشراً في العملية الإنسانية: يضغط على المجتمع الدولي، يحرّك الرأي العام، ويفتح الباب أمام المساعدات.
المخاطر التي يواجهها الصحفيون
لكن هذا الدور النبيل يُمارَس في ظروف قاسية، تحت نيران الخطر اليومي. فإذا كان المسعف يواجه القصف لإنقاذ مصاب، فإن الصحفي يواجه الخطر ذاته وهو يلتقط صورة أو يسجّل شهادة. وتتعدد أشكال هذه المخاطر:
- الخطر المباشر: الاستهداف بالقصف أو القتل رغم أن القانون الدولي يضمن حمايتهم.
- الاعتقال والملاحقة: لمجرد كشفهم حقيقة غير مرغوبة.
- الضغط النفسي: مشاهدة الجثث والأطفال تحت الأنقاض يترك ندوباً عميقة.
- فقدان الموارد: العمل بلا كهرباء، بلا اتصال، أو حتى بلا مأوى آمن لعائلاتهم.
هذه المخاطر تجعل الصحافة أكثر من مهنة، لتصبح مهمة إنسانية تتطلب شجاعة استثنائية. ومن زاوية حقوقية، يتجاوز دور الصحفي مجرد نقل المعلومة ليحمي حقاً أساسياً من حقوق الإنسان: الحق في المعرفة. فالصحفيون يوثقون جرائم الحرب لتكون شاهداً أمام المحاكم، ينقلون قصص المدنيين لإعادة إنسانيتهم وسط ضجيج الأرقام، ويفضحون التمييز والمعاناة التي قد لا تصل إلى السجلات الرسمية.
ومن هنا يطرح الصحفي في مناطق النزاع سؤالاً أخلاقياً عميقاً: كيف يكون محايداً وهو يرى الضحايا كل يوم؟ الحياد هنا لا يعني التنازل عن القيم الإنسانية. فالصحفي ملزم بالتحقق والدقة ونقل مختلف الأصوات، لكنه أيضاً إنسان لا يستطيع أن يقف متفرجاً أمام المأساة. التغطية المهنية لا تلغي الانحياز للحياة، للكرامة، وللحرية.
مسؤولية المجتمع الدولي
ولذلك تبرز مسؤولية المجتمع الدولي والجمهور في دعم الصحفيين باعتبارهم حماة الحقيقة وصوت الضحايا:
- التضامن: الدفاع عن الصحفيين المعتقلين أو المستهدفين.
- الحماية القانونية: المطالبة بتطبيق القوانين الدولية التي تجرّم استهدافهم.
- النشر والمشاركة: نقل تقاريرهم وصورهم على أوسع نطاق حتى لا تختفي الحقيقة.
- الدعم النفسي: توفير مساحات للتأهيل النفسي للصحفيين العائدين من مناطق النزاع.
فالدفاع عن الصحفيين هو دفاع عن الحق في المعرفة، وعن حق الشعوب في أن تُروى قصتها بصدق وكرامة. إنّ العمل الصحفي في مناطق النزاع ليس مجرد مهنة ولا حتى رسالة؛ إنه شكل من أشكال العمل الإنساني. فالصحفي الذي يعرّض نفسه للخطر كي يرى العالم الحقيقة، يشارك في إنقاذ الأرواح بطريقة مختلفة: بالكلمة، بالصورة، وبالقدرة على تحريك الضمير الجمعي.
الصحفيون كحماة للحقيقة والذاكرة
وفي النهاية، كما أن المسعف يمنح الجريح فرصة للحياة، فإن الصحفي يمنح الضحية فرصة لئلا تُنسى قصتها وسط ركام الحروب. إن ما يقدمه الصحفيون ليس مجرد نقل للمعلومة، بل هو مقاومة ضد التعتيم، وضمانة لحق الإنسانية في أن ترى نفسها في مرآة الحقيقة مهما كانت موجعة. فالصحافة في زمن الحروب ليست فقط وسيلة للتوثيق، بل هي صرخة في وجه الظلم، وجسر يربط الضحايا بالعالم الخارجي، ورسالة تذكّر بأن خلف كل رقم إنسان، وخلف كل مأساة قصة لا يجب أن تضيع.
بهذا المعنى، يصبح الدفاع عن الصحفيين واجباً أخلاقياً وحقوقياً معاً، لأن حماية أصواتهم هي حماية لذاكرة الشعوب وحقها في الكرامة. فالصحفيون هم شهود هذا العصر، وحراس الحقيقة الذين يكتبون بدمائهم أحياناً ما لا يُكتب بالحبر.