لم تظهر حوكمة الإنترنت بين ليلة وضحاها. بل بدأت في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، مع التوسع السريع للإنترنت، حين أدرك العالم أن شبكة عالمية لا مركزية تحتاج إلى قواعد مشتركة تنظم عملها. ومع ازدياد عدد الأفراد والمؤسسات المتصلة بالإنترنت، بدأت تبرز أسئلة جوهرية: من يدير أسماء النطاقات؟ من يضع المعايير التقنية؟ ومن يحمي حقوق المستخدمين؟
هذه التساؤلات أدت إلى إنشاء منتديات وهيئات دولية تضم حكومات، ومهندسين، وشركات، ومنظمات مجتمع مدني، ومدافعين عن حقوق الإنسان، بهدف تنسيق كيفية عمل الإنترنت. ومن خلال هذه الجهود المبكرة، وُلد النظام الحديث لحوكمة الإنترنت، الذي يؤثر اليوم في كل شيء، من الوصول إلى الإنترنت وحماية الخصوصية، وصولًا إلى حرية التعبير.
ما هي حوكمة الإنترنت؟
لا يوجد تعريف واحد متفق عليه لحوكمة الإنترنت. وبشكل عام، تشير حوكمة الإنترنت إلى مجموعة القواعد، والسياسات، والمعايير، والممارسات التي تنظم كيفية عمل الإنترنت وكيفية استخدام الناس له.
وتشمل هذه الحوكمة أطرافًا متعددة، من بينها الحكومات، والشركات الخاصة، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء التقنيون، الذين يعملون معًا لاتخاذ قرارات تتعلق ببنية الإنترنت وإدارته.
طريقة إدارة الإنترنت وحوكمته لها تأثير مباشر على الحقوق الأساسية، بما في ذلك الحق في الخصوصية، وحرية التعبير، والوصول إلى المعلومات، والمساواة. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
- الخصوصية: القرارات المتعلقة بجمع البيانات، والمراقبة، والتشفير تحدد ما إذا كان المستخدمون قادرين على حماية بياناتهم الشخصية.
مثال:
في الصين، تمتلك الحكومة وصولًا واسعًا إلى بيانات المستخدمين على الإنترنت من خلال أنظمة المراقبة والتنظيم الصارم للمنصات الرقمية. ونتيجة لذلك، يتردد العديد من مستخدمي الإنترنت في مشاركة معلوماتهم الشخصية أو التعبير بحرية عبر الإنترنت، إدراكًا منهم لإمكانية مراقبة بياناتهم وأنشطتهم.
- حرية التعبير: القواعد التي تحكم الإشراف على المحتوى، والوصول إلى المنصات، وعمليات قطع الإنترنت، تؤثر بشكل مباشر على قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم بحرية في الفضاء الرقمي.
مثال:
خلال الاحتجاجات في إيران، قامت السلطات مرارًا بتقييد الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي وقطع خدمة الإنترنت. ويؤدي ذلك إلى منع الناس من مشاركة المعلومات، أو التنظيم السلمي، أو توثيق انتهاكات حقوق الإنسان عبر الإنترنت.
- الوصول والمساواة: تشمل حوكمة الإنترنت أيضًا مسألة تمكين الأفراد والمجتمعات، ولا سيما الفئات المهمشة، من الوصول إلى الإنترنت والمشاركة الكاملة في الفضاء الرقمي.
مثال:
في العديد من المناطق الريفية، تحول محدودية البنية التحتية وارتفاع تكاليف الإنترنت دون وصول المجتمعات إلى التعليم الإلكتروني، أو خدمات الصحة الرقمية، أو فرص العمل. ويؤدي ذلك إلى تعميق الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، خصوصًا بين الشباب والنساء.
المبادئ الأساسية لحوكمة إنترنت جيدة
لحماية الحقوق ودعم مجتمع رقمي صحي، ينبغي أن تقوم حوكمة الإنترنت على مجموعة من المبادئ الأساسية، من بينها:
- الانفتاح والشفافية: يجب أن تكون القرارات المتعلقة بالإنترنت واضحة ومتاحة للجميع، بحيث يمكن فهمها ومساءلتها.
- مشاركة جميع أصحاب المصلحة: لا تقتصر عملية الحوكمة على الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى فقط، بل يجب أن تشمل أيضًا منظمات المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية، والمستخدمين أنفسهم.
- المساءلة: يتعين على الجهات التي تضع القواعد والسياسات أن تكون خاضعة للمساءلة عن تأثير قراراتها على حقوق الناس وحياتهم اليومية.
- الارتكاز على حقوق الإنسان: ينبغي أن تُدار شبكة الإنترنت بطريقة تحترم حقوق الإنسان وتعززها، لا أن تُقوضها أو تنتقص منها.
عندما تكون الأنظمة التي تتحكم في الإنترنت ضعيفة أو غير عادلة، أو خاضعة لسيطرة عدد محدود من الجهات النافذة، يصبح الفضاء الرقمي أقل أمانًا وأقل انفتاحًا. في مثل هذه الحالات، قد يفقد الأفراد قدرتهم على التعبير بحرية، أو الوصول إلى المعلومات، أو الاستفادة من فرص التعليم والعمل. كما قد تتراجع بعض المجتمعات أكثر بسبب غياب الوصول العادل إلى التكنولوجيا، في حين تصبح البيانات الشخصية عرضة للخطر نتيجة المراقبة أو ضعف إجراءات الحماية الرقمية.
لهذا السبب، من المهم فهم من يضع قواعد الإنترنت وكيف تؤثر هذه القواعد على حقوقنا. فلكل فرد دور يمكن أن يقوم به، من خلال التعرف على السياسات الرقمية، ودعم عمليات صنع القرار العادلة والشاملة، وحماية الخصوصية الشخصية، والتصدي للانتهاكات عندما تتعرض الحريات الرقمية للخطر. فحوكمة الإنترنت لا تتعلق بالتكنولوجيا فقط، بل لها تأثير مباشر على حقوق الإنسان والمساواة.
لماذا يهمك هذا الأمر؟
لا يشترط أن تكون صانع سياسات أو خبيرًا تقنيًا لتؤثر في كيفية تشكيل الإنترنت. فحوكمة الإنترنت تعتمد على المشاركة العامة، وتشمل الشباب، والطلبة، والناشطين، ومستخدمي الإنترنت في حياتهم اليومية.
يمكنك إحداث فرق من خلال التعرف على كيفية إدارة الإنترنت في بلدك، ومتابعة القوانين والسياسات الجديدة التي تؤثر على الخصوصية وحرية التعبير، ورفع صوتك عندما تكون الحقوق الرقمية مهددة.
مشاركتك مهمة. فمن خلال البقاء على اطلاع، والمشاركة في النقاشات المتعلقة بالحقوق الرقمية، ودعم الفضاءات الرقمية الآمنة والمفتوحة، والانخراط في منصات عالمية مثل منتدى حوكمة الإنترنت (IGF)، يمكنك المساهمة في بناء مستقبل يكون فيه الإنترنت عادلاً، ومنفتحًا، ومتاحًا للجميع. فمستقبل الإنترنت يجب أن يُبنى بأيدي الجميع، لا أن يُحتكر من قِبل قلة قليلة.