خذ لحظة للتأمل في هذه الخريطة. كل نقطة تمثل حياة إنسان فقدناها، ابن، ابنة، أم، أب، زوج، زوجة، أخت أو أخ. هذه النقاط تحدد المكان الذي فقد فيه شخص حياته أثناء محاولته عبور الحدود إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، فقد دخلت هذه البلاد وخرجت منها مرات لا تُحصى. لقد كنت مهاجرة بدوري، أعيش خارج الولايات المتحدة معظم حياتي. لكنني في كل مرة عبرت الحدود فعلت ذلك بسهولة نسبيًا. هذه الخرائط تكشف ظلمًا عميقًا وتؤكد على التفاوت الصارخ في حرية التنقل حول العالم. لماذا يتمكن البعض مثلي من التنقل بحرية، بينما يُجبر آخرون على المجازفة بحياتهم لنيل نفس الفرصة؟
من أين أتت فكرة رسم خرائط الموت
يبحث عدد متزايد من الناس عن ملاذ آمن من التهديدات مثل الحروب والاضطهاد والكوارث البيئية. وفي مواجهة هذه المآسي، تسعى حكومات العالم إلى وقف الهجرة البشرية، إذ تبني الجدران وتوظف الحراس وتُجرّم الهجرة.
في عام 1994، كثّفت دورية الحدود الأمريكية وجودها في المناطق الحضرية على الحدود الجنوبية، في محاولة لردع المهاجرين، مما دفعهم إلى عبور صحراء سونوران القاتلة. وبدلًا من معالجة قضايا الهجرة، جعل هذا القرار رحلات العبور أكثر خطورة. وبالمثل، أنهت الحكومات الأوروبية في منطقة البحر الأبيض المتوسط عمليات البحث والإنقاذ الرسمية، وبدأت في عرقلة جهود المنظمات غير الحكومية التي تسعى لإنقاذ الأرواح في البحر ومضايقتها.
ومع ازدياد عدد الوفيات على الحدود، بدأت المنظمات الإنسانية بالتدخل مثل لا مزيد من الموت، وحدود إنسانية، والمنظمة الدولية للهجرة إذ بدأت بإنشاء قواعد بيانات تحتوي على خرائط الوفيات. لم تُسهم هذه الخرائط فقط في زيادة الوعي بالتكلفة البشرية للهجرة، بل ساعدت أيضًا في تحسين العمليات الإنسانية، ومواجهة السياسات الحدودية اللاإنسانية. كما استخدمت منظمات أخرى مثل SOS MEDITERRANEE الخرائط لتسليط الضوء على نجاح عمليات الإنقاذ التي تقوم بها، مما يؤكد على أهمية وضرورة استمرار جهود الإنقاذ في البحر المتوسط.
الرسم الخرائطي المقاوِم
طالما كانت الخرائط أداة بيد الإمبراطوريات، فقد استُخدمت لتصوير المستعمرات على أنها أراضٍ فارغة، جاهزة للاستيطان. وفيما يخص الحدود، غالبًا ما تعمل الخرائط على ترسيخ الانقسام، وكأن الحدود شيء طبيعي وثابت لا يتغير.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأ النشطاء باستخدام الخرائط بطريقة مختلفة كوسيلة لتحدي الروايات السائدة. الرسم الخرائطي المقاوِم هي حركة تسعى لإعادة تشكيل نظرتنا للعالم من خلال الخرائط. وتعتمد هذه الحركة على تقنيات إبداعية في رسم الخرائط، تُوظَّف للدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها، وتُعيد تخيُّل المساحات والحدود بما يخدم العدالة والكرامة.
كيف تُقاوم خرائط الموت
إضفاء الطابع الإنساني على الأرقام
تقوم خرائط الموت بما تعجز عنه الإحصائيات: إنها تُضفي طابعًا إنسانيًا على المأساة. تُحوِّل التراجيديا من مجرد أرقام إلى قصص حقيقية. تكشف هذه الخرائط عن العنف المنهجي المُبرر من قبل الدولة عند الحدود سواء البرية أو البحرية. وتُشكك في الفكرة التي تُصور هذه الوفيات (رجالًا ونساءً وأطفالًا) على أنها حتمية أو “طبيعية”. وتطرح سؤالًا صارخًا: لماذا يموت الآلاف من أجل حق بسيط وأساسي كحق التنقل؟
كشف المسؤولية
لقد دفعت السياسات الأميركية ودوريات حرس الحدود مسارات الهجرة نحو الصحراء. والمهاجرون الذين يموتون هناك، يُقال إنهم ماتوا بسبب انخفاض حرارة الجسم أو الجفاف أو أسباب “طبيعية” أو “غير معروفة”. لكن في الواقع، هذه الأسباب ليست طبيعية ولا مجهولة. إنها نتيجة لسياسة حكومية متعمدة وغير إنسانية. ومن خلال رسم خرائط لهذه الوفيات، يُسلط النشطاء الضوء على كيف تحوّل السياسات الأميركية الصحراء إلى سلاح قاتل.
مصدر الصورة
بينما تستخدم الولايات المتحدة الصحراء، تُحوِّل أوروبا البحر إلى سلاح. فالحكومات الأوروبية تُصور الوفيات في البحر المتوسط على أنها نتيجة مأساوية لأخطار الطبيعة، وتُلقي باللوم على البحر، وكأن الغرق والموت أمر محتوم بفعل الطبيعة لا بفعل السياسات. لكن هذه الوفيات ليست طبيعية. إنها نتيجة مباشرة لرفض تنفيذ عمليات البحث والإنقاذ وهو التزام واضح في القانون البحري الدولي. هذا الإهمال المتعمد حوّل البحر الأبيض المتوسط إلى أخطر طريق للهجرة في العالم.
تُظهر خرائط الموت كيف أن الحكومات مسؤولة عن هذه الوفيات، ليس فقط بسكوتها، بل أيضًا من خلال السياسات التي تُسهِم في وقوعها.
مصدر الصورة
المطالبة بالمساءلة
لا تقتصر خرائط الموت على الكشف وعرض النماذج فقط، بل تُستخدم كأداة للمطالبة بالعدالة.
من خلال هذه الخرائط، تُظهر منظمة لا مزيد من الموت كيف يقوم حرس الحدود الأميركي بتقليل عدد وفيات المهاجرين في تقاريره، خاصة تلك الناتجة بشكل مباشر عن ممارساتهم، مثل حالات السقوط من الجدار الحدودي أو الوفاة أثناء المطاردات التي ينفذها الحرس. وقد كشفت بياناتهم أن عدد الوفيات الحقيقي في عام 2020 فقط كان أكبر بثلاث إلى أربع مرات من الأرقام الرسمية.
استندت المنظمة إلى هذه المعلومات للضغط على الحكومة، وطالبت بأن يقوم حرس الحدود بـ:
- إنهاء ممارسات المطاردات على الأقدام أو بالمركبات
- السماح بوجود رقابة خارجية على تقارير الوفيات التي يصدرونها
وبالمثل، استخدمت منظمة SOS MEDITERRANEE الخرائط لتسليط الضوء على عمليات البحث والإنقاذ التي تقوم بها. واعتمدت على هذه البيانات للضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل:
- إنشاء أنظمة آمنة لإنزال الناجين.
- إعادة تفعيل عمليات الإنقاذ التي تقودها الحكومات.
- وقف مضايقة وعرقلة السفن المدنية التي تُجري عمليات بحث وإنقاذ.
خرائط الموت، في هذا السياق، تتحول من وسيلة توثيق إلى أداة مقاومة فعالة، تُحمِّل الجهات المسؤولة تبعات سياساتها وتُطالب بتغيير جذري يحفظ حياة البشر وكرامتهم.
لماذا نستخدم خرائط الموت؟
تُعد خرائط الموت أداة قوية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. تُظهر المنظمات كيف يمكن لهذه الخرائط أن تُسلّط الضوء على السياسات الضارة، وأن تكون وسيلة فعّالة لمقاومة العنف على الحدود.
تتحدى خرائط الموت الروايات السائدة، وتدفعنا لرؤية الثمن الإنساني للسياسات المتطرفة واللاإنسانية. فهي لا تكتفي بعكس الواقع، بل تسهم في تغييره وتُصبح أداة لإعادة تشكيل العالم بطريقة تُنصف الكرامة الإنسانية وتكشف الجرح المستتر خلف الأرقام والحدود.
للاطلاع على أمثلة حية من هذا النوع من الخرائط، يمكن زيارة: Decolonial Atlas أو Counter Cartography Collective.