عُلا بن نجمة

صورة عُلا بن نجمة
عُـلا بن نجمة
المنظمة: 
المنظمة التونسية للإصلاح الجزائي والأمني

الأصدقاء الأعزاء أورد لكم فيما يلي قصة قصير عن حال مساجين الرأي في عهد بن علي للأستاذ سامي براهم بطل القصة الحقيقي حتى تكون حافزا لنا لنجتهد في إلاح هذه المنظومة حتى لا نعيش هذه الوضعيات مستقبلا 

عشق في الزّنزانة رقم 7 سامي براهم 

التحفت بالغطاء و أسندت ظهري إلى جدار زنزانتي في هذه الليلة الباردة التي عصفت رياحها و قسا زمهريرها على جسدي النّحيل الذي أنهكته الصّفعات والرّكلات والهراوات... طال سهادي ... فقرأت كلّ ما أحفظ من آيات الذّكر الحكيم و سبّحت كلّ التّسابيح المأثورة وغير المأثورة و أنشدت كلّ ما أذكر من أناشيد وأغان و أشعار حتّى تيبّس لساني و جفّ حلقي ... فاستحضرت كلّ ذكريات الماضي و تأمّلت في الحاضر واستشرفت المستقبل و دعوت الله لكلّ من أعرفهم و من لا أعرفهم ... و لكنّ ليلي مع ذلك مازال طويلا ثقيلا و سياط البرد القارس تنهال علي من بين قضبان الزّنزانة العارية ... لكنّ كلّ ذلك لا يساوي شيئا أمام الوحدة القاتلة التي تدمّر نفسي و تحطّم أعصابي... لا أنيس و لا رفيق إلاّ الارتداد إلى أغوار الذّات المسكونة بالوجع و الخوف ... أفّ لهذا الليل لا ينتهي و لوحشته لا تتبدّد... منذ أن نقلت من مركز الإيقاف ببوشوشة إلى الزّنزانة رقم 7 بالسّجن المدني لم أر بشرا قطّ إلاّ سجّاني الذي يتطاير الشّرر من عينيه كلّما رآني كأنّ بيني و بينه ثأرا قديما لا أعرفه ... لكنّني أسمع أصوات الذين يؤتى بهم إلى هذا الجناح لينالوا نصيبهم من العقاب والعذاب فتعلو صرخاتهم ثمّ تخفت في شكل نشيج و غمغمات كأنّها تنبعث من غور بئر ... لكنّ ليلتي هذه بدون صراخ أو عويل ... ليلة جنائزيّة صمتها أشبه بصمت المقابر ... المقابر ؟ يا الله أليست هذه الزّنزانة قبري الأخير ؟ هل هي النّهاية ؟ و تكوّمت على الفراش القميء النّتن و انكمشت على أوجاعي مثل دودة جمّد برد هذه الليلة القاسية أوصالها الرّقيقة وهي تتلفّع بشرنقتها... حاولت أن أخلد إلى النّوم ... تقلّبت يمينا و شمالا و جرّبت كلّ الأوضاع و أنا أتكوّم في الغطاء الذي يغطّي كامل جسدي إلاّ أنفي الذي أستنشق به الهواء و عينيّ اللتين تجولان في أرجاء الزّنزانة... و فجأة تجمّد الدّم في عروقي ... يا الله ! ماذا أرى ... هناك في أقصى الرّكن الشّرقي من الجدار ؟ نقطتي ضوء تنبعثان من جوف أحد الشّقوق... تتّسعان ثمّ تضيقان وترسلان شعاعا مبهرا يخضرّ تارة ويصفرّ أخرى و تلمعان مثل جوهرتين فريدتين ثمّ تنطفئان... ثمّ توزّعت هباءات النّور لتكشف عن جسم نوراني أرجواني شفّاف في حجم عقلة الإصبع يعلو ثمّ ينخفض، يتمطّط ثمّ ينكمش في شكل دائري قزحيّ بديع ... و ما لبث موكب الأنوار أن تحرّك نحوي... يا الله إنّه يقترب منّي... و انكمشت في ذهول و أنا أرقب المشهد ... أتراه ملاكا صغيرا أرسله الله ليؤنس وحشتي ؟ أو ربّما ... هو... جان... ؟؟؟ وسرت في كامل جسدي قشعريرة الرّهبة و خفق قلبي بشدّة ...أمّا الكائن النّوراني فقد كان منشغلا عن حيرتي بعرضه البهلواني العجيب ... و كنت أراقب المشهد وأنا بين الخوف والرّجاء بين الانشراح و الرّهبة و آلاف الأسئلة تقفز إلى ذهني ... ثمّ أسلمت نفسي كالمخدّر إلى متعة العرض حتّى غلبني الإجهاد على النّعاس ... و أفقت كالمنتفض عند آذان الفجر فلم ألحظ شيئا من ذلك المهرجان النّوراني... يا الله هل كنت في حلم ؟ هل وصلت بي الوحدة إلى درجة الهذيان ؟ غير معقول لقد كنت في يقظة تامّة و كان ذلك الجسم العجيب قريبا منّي ... هل أصابني مسّ من الجان ؟ ... أستغفر الله و لا حول ولا قوّة إلاّ بالله... فتحت الحنفيّة فإذا الماء كأنّه قطع من الثّلج ... توضّأت و صلّيت صبحي و مشاهد الليلة الفارطة تزدحم في مخيّلتي ... أسندت رأسي إلى الجدار و قد أصابني الدّوار... ثمّ ما لبثت أن قفزت منتفضا... يا للرّوعة ! يا للجمال ! كأنّه هو... ذلك الشّيء العجيب ... حملته في راحتي و قد انشرح صدري... نعم إنّها عقلة الإصبع التي حيّرتني البارحة و كادت تحطّم أعصابي... ما أروع ألوانها ! ما أجمل فروتها التي تغطّي كامل جسدها الرّقيق الشفّاف ! ما أعظم التّاج الذي يزيّن رأسها الدّقيقة... إنّها صديقتي أنا ... أرسلها الله إليّ لتؤنس وحشتي ... يا الله يعجز لساني عن وصف هذا الجمال ... لم أر في حياتي دودة في مثل هذه الفتنة ... تحرّكت فوق راحتي ثمّ انزلقت بكلّ نعومة فوق يدي ثمّ زندي و أحسست لذّة مجسّاتها تدغدغ إبطي فأسلمت لها نفسي و هي تخترق الأثواب حتّى استقرّت فوق صدري وقد سرت رعشة النّشوة في كامل جسدي... كانت تبحث عن الدّفء و كنت أبحث عن الأنس... و طفقت أداعب فروتها الحريريّة الرّقيقة و هي تتلوّى وتنكمش ... تنقبض ثمّ تنبسط و تنفرج أساريرها و هي تحدّق فيّ بعينيها اللتين كانتا ترسلان الضّوء ليلة أمس... ثمّ صرخت فيها معاتبا... ماذا فعلت بي ليلة البارحة ؟ فانكمشت في حياء ... فهدّأت من روعها ملاطفا ... لا عليك يا دودتي الملكيّة الحبيبة لقد نزلت أهلا و حللت سهلا و لن تري منّا إلاّ ما يسعدك... الآن فقط عرفت لماذا يناغي الكبار صغارهم قائلين : يعطيك دودة !!! و منذ تلك اللحظة أصبحت أقضّي النّهار أعرض عليها سور القرآن و التّسابيح الصّباحيّة والمسائيّة فتسكن و تخشع ... و عندما أنشد و أشدو بالألحان تتلوّى راقصة بكلّ غنج ودلال ... و عند الفطور أنتخب الحشائش الطريّة من الحساء و أمتصّها بلساني حتّى تزداد نعومة ثمّ أطعمها فتلتهمها بكلّ نهم... أمّا في الليل فأسهر السّاعات الطّوال أمتّع البصر بأطياف الأشعّة التي ترسلها من فروتها النّاعمة... 
هذا الصّباح دخل سجّاني الزّنزانة قبل التّعداد و دفعني إلى الخارج بكلّ عنف ثمّ قلّب الفراش و الغطاء و نظر في كلّ الّزوايا ثمّ ألقى نظرة على الكنيف و وضع أذنه على الجدار ... ثمّ خرج مزمجرا مطبقا باب الزّنزانة وناداني صارخا : أريد جوابا واضحا دون مراوغة و إلاّ نقلتك إلى زنزانة أخرى ترى فيها ما لم تره و لن تراه طول حياتك ... مع من كنت تتكلّم طوال هذه الأيّام ... لا تكذب لقد رآك كلّ الحرّاس و سمعوك ! 
وقفت مشدوها من هول المفاجأة و قد انعقد لساني ... هل سأقول له إنّ لي علاقة غراميّة بدودة ؟ هل سيصدّقني ؟ ربّما سيظنّ بي الظّنون الخبيثة ! ولم ينتظر طويلا بل حمل صمتي على الإدانة ثمّ انهالت صفعات يده الغليظة على رأسي و وجهي : انطق يا ابن الكلب مع من كنت تتناجى ... لا تقل لي إنّك على علاقة بجنيّة... ثمّ جرّدني من ملابسي و قيّدني من يديّ إلي قضبان الزّنزانة... ثمّ ما لبث أن فعل بجار زنزانتي نفس الشّيء... و طفق يطوف علينا كلّ ساعة سائلا : ألن تعترفا ؟ سأجعلكما تنسيان اسميكما ... و بينما كنّا نقسم له بأغلظ الأيمان أنّنا لم نتخاطب كان سجّاننا يهدّد و يتوعّد بأن يفعل بنا الأفاعيل ... و في المساء قدم الملازم في موكب من الحرّاس في لغط وجلبة يجوبون الزّنزانات أثناء التّعداد الأخير و ما إن وصل بقربي وشوش سجّاني بأذنه فطلب إليه أن يفكّ قيدي فقلت الحمد لله عرفوا أنّني مظلوم... ثمّ دفعني سجّاني إلى الدّاخل وأسقطني أرضا أمام جمع الحرّاس وقيّدني من رجلي اليمنى في حلقة مثبتة بالجدار و همّ بالخروج، فاستعطفته أن يطيل سلسلتي حتّى أقضي حاجتي لكنّه صرخ فيّ هنا تبول وتتغوّط لتعرف كيف تلعب بذيلك و ما إن غلّق الباب تذكّرت صديقتي الجميلة فتبدّد حزني ... بحثت عنها فإذا هي في شراشف الغطاء تتلوّى و تتكوّم كأنّه نالها ما نالني من عذابات هذا اليوم و كرباته، مددت لها سبّابتي فتعلّقت بها ثمّ وضعتها على صدري فراحت تهدّئ من روعي و تدهن مواضع الألم بلعابها اللزج البارد ... نظرت إلى ألوانها الباهرة و هي تسرح في على امتداد يدي وخاطبتها هامسا : أرأيت أنّني لم أفش سرّك لسجّاني يا دويدتي العزيزة ... و لكن ّ السّجين المسكين في الزّنزانة المجاورة دفع الثّمن معي ... و لكن كلّ شيء يهون من أجل جمالك الفتّان ... ثمّ غلبني التّعب والنّعّاس و أنا أتأمّل صديقتي و هي تقوم بحركات متشنّجة غريبة على غير عادتها ...
في الصّباح الباكر فتح سجّاني الباب و فكّ قيدي و طلب منّي الاستعداد للقاء حاكم التّحقيق ... هناك دعاني حضرته أن أوقّع على أقوالي و إلا ستطول إقامتي في الزّنزانة و حرماني من الزّيارة ... و عبثا حاولت أن أقنعه بحقّي في استحضار محام لكنّه كان يصرخ فيّ : ألا تثق بي سأقرأ عليك أقوالك كاملة ... ويشرع في تلاوة ما كتبه في تقريره على لساني ... لكنّني تمسّكت بعدم الإمضاء في غياب المحامي فسحبني الحارس المرافق من يدي قائلا: أنت عنيد و ستواجه مشاكل كثيرة ... عدت إلى سجني حائرا و قد أنساني التّهديد و الوعيد أمر دودتي الحبيبة... و ما إن دلفت إلى زنزانتي وسط ركلات الأعوان و سبابهم حتّى طفقت أبحث عن ذلك الشّيء الصّغير الذي أحال ليالي غربتي أنسا و بهجة ... سبحان الذي جعل سرّه في أضعف خلقه ! ... فتّشت في كلّ الزّوايا و الشّقوق و الثّقوب و لكن دون جدوى ... جنّ جنوني و أصبت بإحباط كبير كمن فقد شخصا عزيزا عليه... ثمّ جلست متهالكا مسندا ظهري إلى الجدار ... يا الله أين تراها ذهبت ؟ هل أصابها مكروه لا سمح الله ؟ هل اكتشف ذلك الحشرة أمرها فداسها بقدميه كما تعوّد أن يدوسني ؟ ثمّ ما لبثت أن عثرت على غشاء رقيق شفّاف تذروه الرّياح يمنة و يسرة فازدادت حيرتي ... و بينما أنا غارق في حزني و شوقي رفرف فوق رأسي جناحان في أبهى حلّة رأت عيني ثمّ حطّا فوق كتفي و حلّقا في سقف الزّنزانة ... رفعت طرفي فإذا بفراشة بديعة تخترق قضبان الزّنزانة بعد أن ألقت عليّ نظرة وداع أخيرة وحلّقت في سماء الحريّة و تركتني وحيدا من جديد بين جدران زنزانتي الباردة. 
سامي براهم